الفنّ المعاصر في مواجهة النقد
لماذا اخترت كتاب نتالي هنيك كأرضية للدراسة والنقاش حول الفن المعاصر، ولم أختر غيره، رغم تواجد عدد من النقاد، الغربيين خاصة، الذين تناولوا بالدراسة والتحليل اتجاهات وتيارات هذا الفن الذي ساد وعم الأقطار والبلدان عبر العالم بسرعة فائقة، وبشكل رهيب، ومازال ينتشر ويعم، ويحكم سيطرته على جميع أجناس التعبير التشكيلي؟
اخترت هذه الكاتبة التي رغم تعدد دراساتها ومؤلفاتها حول الفن لا تدّعي نفسها كناقدة فنية؛ بل هي كما قالت في بعض حواراتها باحثة سسيولوجية في الميدان الفني، تناولت الفن المعاصر انطلاقا من نظرة سوسيولوجية؛ حاولت خلالها الابتعاد عن أي حكم من أحكام القيمة. فاعتمدت أسلوب الإضاءات الخاطفة والمقتضبة التي تكشف عن الأوجه المتعددة والمختلفة للفن المعاصر، يمكن أن تفيد المتلقي غير المتخصص في تكوين نظرة تركيبية شاملة وواضحة عن العديد من القضايا والطروحات. إنه القصد الذي ابتغته لتمكين هذا المتلقي من ولوج مجالات الفن المعاصر، وإخراجه من بوتقة الإحساس بعدم الفهم والتيه والحيرة والارتباك وغياب المعنى (ص254).
والحقيقة أن فن ما بعد الحداثة يتطلب مثل هذه الدراسات التي تهتم بالجوانب المجتمعية؛ بحكم أن الحداثة وما بعدها ما هي إلا انعكاسات وصور طبق الأصل لما تعرفه المجتمعات الغربية على الخصوص من تغيرات على مستوى القيم والفلسفات والأفكار والإيديولوجيات.
فيبدو أن لا جدوى من مقاربة الفن المعاصر بتوظيف النظريات النقدية المعروفة، وإسقاط المعايير التي حددتها تلك النظريات على أعمال ما بعد الحداثة التشكيلية.
بعض أمثلة من الانتقادات التي وجهت للفن المعاصر
كانت انطلاقة الجدل الدائر حول الفن المعاصر تتجلى في المقال الذي نشره جان مورينو في مجلة الفكر (Esprit) عام 1991، وقد دار حول سؤال رئيس: “هل مازالت توجد معايير للتقدير الجمالي؟”
تلا ذلك انتقاد آخر لمارك فوماغوري في كتابه “الدولة الثقافية”، معتبرا الفنانين المعاصرين انتهازيين ودجالين، وذهب فوماغوري في انتقاده بعيدا ليتهم النقاد بالتواطؤ، والتخلي عن المسؤولية التاريخية.
نفس الاتهام وجهه جان كلير منددا ببعض الحركات الطليعية المنتمية إلى الفن الحديث التي كانت في نظره تتعاطف مع الأنظمة الدكتاتورية كالنازية والستالينية.
وارتفعت حدة السجال حول الفن المعاصر حينما نشر جان بودريار مقالة في مجلة “الأزمة” اليمينية؛ يعتبر فيها الفن المعاصر بأنه “لاشيء”. لم يتقبل أنصار الفن المعاصر انتقادات بودريار، واعتبروها “مجرد استفزاز مجاني”، وأن كلامه كان دعما للأطروحات الرجعية.
الحقيقة أن موقف بودربار اكتساه الغموض؛ لأن النقاد اعتبروه مفتقدا للتحليل الموضوعي، وتنقصه المرجعيات الثقافية التي تحيل على تاريخ الفن وفلسفة الجمال.
وهذه الملاحظة يمكن تعميمها على جلّ الانتقادات الموجهة إلى الفن الراهن، حيث لا نجد أحدا من المنتقدين تناول الأعمال الفنية بالتحليل الموضوعي، بل هناك من وصل إلى حدّ القذف والسباب.
ومن ثم نخلص إلى أن النقاشات والجدل اللذين دارا على مدى ثلاثة عقود من الزمن لم يتوصلا إلى الإجابة على السؤال الذي طرح آنفا: هل مازالت هناك معايير للتقدير الجمالي؟ كانت النقاشات غامضة في مجملها إلى حدّ ما؛ لدرجة أنها لم تهتم بالانشغالات الفنية والجمالية التي يمكن أن يحملها الفن المعاصر.
بما أن الفن المعاصر كسر القواعد، واخترق الحدود المتعارف عليها في الفن التشكيلي؛ سواء الكلاسيكي أو الحديث، فما جدوى مقاربته نقديا باستعمال النظرية الواقعية أو النظرية الشكلية أو النظرية الضمنية؟
إن النظرية الواقعية تكونت أسسها الأولى عبر فلسفات الفن الكلاسيكية، وهي تحاول أن تعطي أجوبة متفاوتة الإقناع عما يمكن تسميته بالفن الجميل، أو الجمال في الفن، وتعتبر الفن الجميل هو “الترديد الحرفي الأمين لموضوعات التجربة المعتادة وحوادثها”، وبالتالي تعتبر الفن محاكاة ونقل الطبيعة المحيطة بالإنسان، وأن مواضيع العمل الفني هي نسخ لحقائق العالم المحيط والمعاش.
وتتجذر هذه النظرية بعيدة في تاريخ فلسفة الجمال؛ حيث تقوم نظرية المحاكاة على أسس حددتها لها الفلسفة الإغريقية عند كل من أفلاطون وأرسطو. فقد أسست الأفكار الإغريقية دعائم المثال النموذجي للفن، وبسطت هيمنتها وسطوتها على الفنين الهلنستي والروماني، وامتد نفوذها ليشمل الذائقة الفنية لعصر النهضة الأوروبية، وفنون القرنين 18 و19 عند ظهور الكلاسيكية الجديدة والرومانتيكية والواقعية واتجاهات أخرى.
باتت النظرية المحاكاتية تملي قواعدها على الفنانين، وتؤخذ تلك القواعد كأسس مؤسساتية رسمية لبناء أي عمل فني، ولا يجوز لأي كان أن يخرج عنها، وأن يحاول تعديلها، أو اتخاذ مبادرة شخصية اجتهادية من عنده، فهو يعتبر فنانا فاشلا، وغير مؤهل ليشغل منصب فنان يعتمد عليه كمعلم، أو منفذ لمنجزات يمكن أن تسندها إليهم الهيئات الرسمية مثل البلاط الملكي أو الكنيسة أو شخصيات من النبلاء ورجالات الدولة. وبالتالي يحكم على ذلك الفنان بالفشل، ويتم طرده من الأوساط الثقافية المعترف بها مجتمعيا.
ظل النقد الفني بدوره يعتمد على النظرية الواقعية لفترات من الزمن رغم ظهور نظريات نقدية أخرى، ورغم تواجد اتجاهات فنية غير واقعية. وبات النقاد والمتتبعون والمهتمون يرون أن الفن الذي لا يتبنى الواقعية ليس فناً، ولا يمكنه أن يربي الذوق الجمالي لدى المتلقي، كما أن جلّ النقاد المعاصرين ما فتئوا يقيّمون فنون ما بعد الحداثة عبر منظار النظرية نفسها، لذلك يرون أن هذه الفنون تتسم بالغرابة والرداءة والفوضوية والخروج عن المألوف؟ وأنها تفتقد إلى المهارة الحرفية، وأن فنانيها تنقصهم كفاءات الحذق والتمكن من المهنة.
إن قواعد الفن، في نظر الكلاسيكيين، تتمثل في الأعمال التي تركها الإغريق والرومان وما نجده في عصر النهضة، وتتلخص هذه القواعد في المنظور ونسب الأجسام والقاعدة الذهبية والتكوين الهندسي الرياضي للعمل الفني.
إن هذه النظريات التي لا يتحدد النقد إلا من خلالها لا تغني، ولا تفيد في مساعدة المتلقي والجمهور العام على فهم الفن المعاصر، والتحكم فكريا وثقافيا في أدواته. وبما أن أغلب النقاد الذين تناولوا الفن المعاصر بالدراسة والتحليل أسقطوا عليه معايير هذه النظريات، زادوا من توسيع الهوة، هوة الرفض، التي تربطه بالجمهور، فهم يقيّمون الفن المعاصر بمقاييس ومحددات الفنيين الكلاسيكي والحديث، ومن ثم يرون أن أعمال الفن المعاصر ليست جميلة، وينقصها الحذق، وتفتقد إلى المهارة التقنية، ومضامينها هجينة، لا أخلاقية وغير ذلك.
إن نظريات النقد التي يمكن رصد ميلادها وتطورها خلال زمن ما بعد الحداثة، كالمقاربة الإيكوغرافية، والمقاربة السيميائية والمقاربة البنيوية، وغيرها من المقاربات، لم تعط دراسات دقيقة وكافية كما ونوعا يمكن اعتمادها كأرضية لتناول الفن المعاصر بالدراسة والتحليل. فكما قلت آنفا ما هو موجود حتى اليوم، هي كتابات متفاوتة تعتمد النظريات النقدية “المحافظة”. لذلك أرى أن من خير ما كتب في مجال الدراسات العميقة حول الفن المعاصر تبقى تلك التي طعمت بها الباحثة السسيولوجية الفرنسية نتالي هنيك، الساحة النقدية الفنية. وخصوصا كتابها الأخير الذي صدر عام 2014 عن دار النشر Gallimard بباريس، تحت عنوان:
Le Paradigme de l›art contemporain, Structures d›une révolution artistique.
كتاب براديغم الفن المعاصر يمكن اعتباره مواصلة لمسيرة الكاتبة الفكرية في مجال الفن المعاصر، والتي تعود بدايتها إلى سنة 1998، تاريخ صدور كتابها “اللعبة الثلاثية للفن المعاصر”، فهو يقدم نفسه كخلاصة وحصيلة عامة لأعمالها السابقة، وتقدم فيه فرضية تسعى من خلالها لتبين أن الفن المعاصر ليس مجرد شكل متميز، أو نوع خاص ضمن الحقل الفني؛ بل هو بامتياز براديغم قائم الذات وتام الاستقلالية.
فالكاتبة تعتمد في تعريفها للبرادغم على أفكار علمية حددها منظّر العلوم توماس كون، والتي مفادها أن تطور العلم لا يتبع مسارا خطيا، ولكن يتنقل عبر ثورات تنفي ما قبلها، وعوض أن تجيب عن التساؤلات، فإنها تقترح طرقا جديدة لكيفية طرح السؤال.
ومن خلال الأقسام الثلاثة للكتاب – القسم الأول من التحليل يكشف عن الخصائص الأنطولوجية الجديدة للعمل الفني المعاصر. القسم الثاني يقدم أنماط وجوده ومشروعيته الجديدة. القسم الثالث يعرض حصيلة التحولات والتغيرات التي طالت أشكالا حركية، وتدبير العمل الفني: العرض، المحافظة، الاقتناء والتجميع، الإصلاح والترميم- قدمت نتالي هنيك المفاتيح الأساسية لفهم لعبة الاختراق التي تعد المحدد الأساسي للفن المعاصر، والتي أسيء فهمها في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث اتهم الفن المعاصر من طرف العديد بالإغراق في النجومية، وانعدام الأصالة، وغياب المعنى. فالعمل الفني يقوم على اختراق حدود الفن، كما يمثلها الحس المشترك (ص55). وهذا الاختراق يغذيه اعتراف مؤسساتي فوري؛ يؤدي إلى تجدير القضايا الفنية. يعني أن العمل لم يعد منضبطا لضرورة الخضوع إلى قانون أكاديمي، ولا لضرورة التعبير عن دواخل الفنان، فيخرج الفنانون عن بعض المقتضيات والحدود القانونية والأخلاقية، ويتم التخلي عن مبدأ الأصالة.
تعتبر الكاتبة الفن المعاصر ثورة فنية حقيقية أدت إلى خلق نوع جمالي جديد، نوع جنيسي، (genre générique)، لذلك سمته براديغم، المفردة التي تحتل في القاموس الفرنسي درجة اصطلاحية أعلى وأقوى من النوع. إن البرادغم يقصد فردية تحضر على مستويات فكرية مختلفة: جمالية، اقتصادية، قانونية، خطابية ومؤسساتية. بمعنى آخر، البرادغم هو بنية عامة للمفاهيم المتعامل بها في حقبة زمنية معينة، ناتجة عن التجربة والنشاط الإنسانيين. إن ما يميز براديغما معينا هو أن يشتمل ليس فقط على البعد الكرونولوجي للمراحل المتعارف عليها في التاريخ للفن، والبعد الأجناسي للتصنيف الذي يهم علم الجمال، وإنما أيضا على الخطابات عن الفن والاقتصاد والقانون والمؤسسات والقيم وأشكال حركية وتلقي الأعمال. (ص53).
في كتابها براديغم الفن المعاصر حددت نتالي هنيك ثلاث براديغمات عرفهم تاريخ الفن الغربي: الفن الكلاسيكي، حيث يخضع الفن للقواعد الموروثة عن التقاليد الإغريقية الرومانية والتي كرسها عصر النهضة.
والفن الحديث: الفن يعكس فردانية الفنان، وإحساساته الداخلية، ويخترق القواعد الكلاسيكية.
والفن المعاصر: يعد الفن لعبا بالحدود، حدود ما يعتبر أصلا فنا. فالفن المعاصر هو عالم صغير (مكرو كوسم) معقد، وليس مجموعة من التيارات العادية، أو مجموعة من الأعمال المنجزة من طرف فنانين مختلفين.
وتعتبر الكاتبة أن كلا من الأنواع الثلاثة له فلسفته الجمالية، ونظرياته التي تؤطره، وممارساته الفعلية التي تجعله يختلف عن غيره. ويتجلى الاختلاف حينما تظهر عملية الاختراق التي تنقلنا من فن إلى آخر.
فكيف تتم عملية الاختراق هذه، أو لعبة الاختراق كما تسميها نتالي هنيك؟ وعلى أي مستوى تتموضع هذه العملية؟ وكيف يمكننا تحديد معالمها الفنية والجمالية؟ من هم الفاعلون الأساسيون الذين يسيرون لعبة الفن المعاصر؟ ما هي الطرق والوسائل التي يستعملونها؟ كيف نبرر الارتفاع المهول لأثمنة الأعمال؟
تساؤلات كثيرة تطرح نفسها على المتتبع لمسارات الفن المعاصر، حاولت الكاتبة الإجابة عنها وتوضيحها خلال فصول الكتاب.
إن الانتقال من الفن الكلاسيكي بأنواعه ومدارسه وقواعده إلى الفن الحديث باتجاهاته، لم يكن انتقالا اعتباطيا، أو جاء نتيجة لصدفة من الصدف، ولكنه كان ردة فعل مبنية على أسس مجتمعية، سياسية واقتصادية وثقافية. وإن الفن المعاصر بتحوله إلى براديغم جديد أبرم قطيعة أنطولوجية مع الحدود المتعارف عليها، والمتفق بشأنها فيما يسمى بالفن (ص49). إلا أن تصور القطيعة الحاصلة والفاصلة بين براديغم وآخر لا يخفي عنا إمكانية تعايش براديغمات مختلفة أو تزامنها، من ذلك مثلا تعايش البراديغم المعاصر مع البراديغم الحديث من خلال بعض الأعمال المنجزة، وشبكات العرض، وأيضا على مستوى حساسية الجمهور، وطريقة التلقي والتفاعل مع الأعمال الفنية.
ومع اختراق الحدود، تظهر فكرة التعددية على جميع المستويات، تعددية في الخامات والتقنيات والرؤى والمضامين والأساليب والتخصصات والفاعلين المتدخلين في إنجاز العمل الفني.
حتى ماهية العمل الفني عرفت بدورها تغييرات جذرية إثر التقلبات التي طرأت على التجربة الجمالية بالانتقال من برادغم إلى آخر. وهكذا نستنتج أن التغيير لم يشمل التعاريف وحدها؛ بل ضم أيضا مكونات العمل الفني، وطرق تداوله، وأدوار الوسطاء. النقاشات والجدالات التي ميزت الانتقال من برادغم إلى آخر.