مجلة سيوانمقالات

ملامح صورة السّلَفي في رواية عمار علي حسن

احمد شتلوت كاتب وناقد – مصر
  • ترفض الرواية صورتي السّلَفي والشيخ المدجن.
  • الرواية تلمح إلى عدم اقتصار التشدّد الديني على فئة دون أخرى.
  • هذا المجتمع ينقسم ناسه إلى قسمين: إما فظّ قاسٍ؛ يذهب للتطرف، وإما لينٌ متسامح يلجأ للتصوف.

“يا من تذهب سوف تعود”… ربما يكون الراوي في رواية “السّلَفي”؛ للدكتور عمار علي حسن، قد تمثل تلك الجملة من كتاب الموتى، لذا أعاد في لاوعيه صياغتها بشكل بدا أقل يقينا، فقال “ليس كل من ذهب قد غاب”، وذلك خلال رحلة طوافه بالعتبات، وكأنه استحضر رحلة إيزيس في طوافها بالأنحاء للملمة أشلاء أوزوريس.

السّلَفي
السّلَفي بداهة هو المنتمي لسّلف يراه صالحا بالضرورة؛ فيتخذه قدوة، وفي منتصف سبعينيات القرن العشرين أطلق المصطلح على جماعات من ذوي التوجهات الإسلامية؛ كان ينظر إليهم باعتبارهم إصلاحيين، لا يميلون للعنف كجماعة التكفير والهجرة، كما أنهم ليسوا من أعضاء جماعة الإخوان، لكن ما حدث إبان الغزو السوفييتي لأفغانستان، وما أعقبه من استجابة الكثيرين منهم لدعوات الجهاد جعل من جبال أفغانستان بوتقة صهرت الجميع، وذوّبت ما بينهم من فوارق، فتبدلت دلالة المصطلح، فأصبح دالاً على الانغلاق والتشدّد، يطلق على ممارسي العنف فعلا أو قولا، فرأينا شخص السّلَفي في الرواية يقطع جذوره بانسلاخه عن أبويه؛ بل بتكفيرهما ومعاداتهما.
ورغم عمومية المصطلح إلا أن الرواية تتعامل مع شخصية محددة تمثل النسخة المصرية منه، وهي مرتبطة ببيئة معينة، لذا لم تكن الإشارات العديدة إلى قرية بمحافظة المنيا مقصودة لذاتها، وإنما للتأكيد على محلية تلك الصورة للسّلفي، فقرية الرواية لم تتمتع بخصوصية ما، وإنما هي مثل كل القرى المصرية. لذا يسهل اختطاف بعض شبابها، ومسخهم، ليهجروا أرضهم، ويستوطنوا صحراوات الحروب، و”يقول عنهم أغلبية الناس على سطح الأرض إنهم إرهابيون” (الرواية – ص13).

الطواف بالعتبات
“حكايتي التي ربما لو حكيتها لك لتغيرت أشياء كثيرة، وبقيت معي، هنا تدب أقدامنا سويا في الشوارع العتيقة، ولم تطارد الرصاص من جبال أفغانستان إلى صحراء ليبيا، وليس في رأسك سوى وهم الكتب الصفراء، وليس في مخيلتك سوى صورة شيخك وأميرك الذي تمتلئ يداه بالقنابل والدم” (الرواية – ص8)، هذا المقتبس من الرواية يلخص حالالأب الذي غفل عن ولده (لذا لم يحك له الحكاية في حينها) فتلقفه من أحاله إلى “فم يلهج بالتسابيح وقلب مظلم” (ص9)، ثم يقر بمسؤوليته/ غفلته، “كيف أصبحت أنت هكذا في غفلة مني؟”.
يقرر الراوي/ الأب أن يحكي عن العتبات الإحدى والعشرين، ربما تكون هي كل بيوت القرية، ولعل في وصفها بالعتبات تأكيد على ما لها من حرمة وقداسة، حيث تستدعي من ناحية عتبة مقام الولي، ومن ناحية أخرى تشير لمدخل البيت بالنسبة لأهله، فهم إذن ليسوا غرباء عن البيوت وساكنيها.
العتبة الأولى لم تكن بيتاً، وكان لابدّ أن تكون مفتتح الرواية، وبداية الرحلة، فقد كانت صهريجا صغيرا تم بناؤه ليتجمع فيه الماء كخزان احتياطي يتيح للناس ما يشربون إن تعطل الخزان الكبير، لكن انقطعت عنه المياه، ونسيته الحكومة، فاتخذته سيدة غريبة سكناً، كان اسمها زينب، وكانت صاحبة كرامات، تنبأت للراوي وهو طفل بأن نجمه سيعلو، وسيكون له ابن يعصيه، تنبأت للابن بما صار إليه، “وقد يدهشك أنها يومها رسمت لي ملامحك، وصفت يومها كأنها تراك الآن” (ص11)، وتمسك الأب بالأمل متمثلا في بقية النبوءة، “حينما تكتمل العتبات سأجدك” (ص10)، خاصة أن نبوءة أخرى تدعمها نبوءة الشيخ إسماعيل في العتبة العشرين، “يحضر الغائب ويغيب الحاضر”. (ص281).

بناء الرواية
تنهض الحبكة الرئيسة للرواية على حكايات فرعية يرويها الأب على ابن يتوهم حضوره، لذا كان لابدّ أن يكون راوياً عليماً، وترجع ضرورة هذا النمط من الرواة لأسباب فنية وفكرية، فهو من ناحية صوت وحيد نسمعه، يحكى عما يعرف، وعما يريد، يحاول دحض حجج من ينطق الابن بلسانهم، فيصبح بوفرة ما لديه من معلومات قابلاً للتصديق، كما أنه بحكاياته الشفهية يبدو كراوٍ شعبي يناسب مجتمع الرواية بسماته المعرفية، كما أنه صوت سلطوي يستبد بالخطاب، فيتماهى مع مناخ الاستبداد المسؤول عما آلت إليه الأحوال من فساد “وحينما أطلب منك أن تغمض عينيك فعليك أن تفعل على الفور”. (ص8).
كذلك يبدو الراوي في طوافه بالعتبات متحركا في الزمان، وليس فقط في المكان، ليضعنا أمام قرية زمانية، يعرف تفاصيلها جيدا، تحل محل القرية المكانية الحالية، لذا فالزمان في الرواية ماضوي منذ السطر الأول، “لم تكن البيوت هكذا قبل أن يولد أبوك” (ص7)، ولعل مرد ذلك إلى تسليم الراوي بأن لا مستقبل له “زمان أبيك الذي ولى” (ص8)، حتى في وصفه للأشياء يثبت أثر الزمن فيها “بجوار تلك الحديقة الشائخة”، (ص7)، أيضا هو في طوافه بالعتبات ينفتح على ماضي الشخصيات التي يستدعيها منطلقة من نقطة ما في تاريخ شخصيتها المحورية، وصولا إلى حاضرها، وهو الأمر الذي يتكرر في العتبة التالية، فيبدو الزمن هنا في دائريته خيطاً وهمياً يربط بين حكايات العتبات التي تتماثل رغم اختلافها، فتبدو في تشظّيها دالة على حال المجتمع الآن، لكن تماثلها، والخيط الزمني الرابط بينها يجعلها مثل مسبحة في يد الراوي الطّواف،يمارس طقوس تطهره واعترافه من خلال الوقوف على حباتها. وتتوالي العتبات، وتكتمل الدورة، فيعود بعد العتبة الأخيرة إلى الصهريج أو” البيت الذي لا يزال صوت الشيخة زينب يتردد بين جدرانه القديمة، ولا تزال نبوءتها ترفرف تحت السقف”. (ص285).
وكما كان البناء الزمني في كل العتبات دائريا، فإن قصص العتبات تتواشج بناسها وأماكنها لترسم جدارية، أو لوحة كبيرة للوطن مختصرا في تلك القرية، لذا يتخذ الزمن في النص الروائي كله سمْتا دائريا أيضا، “ولكل شيء آخر، فكما ابتدأنا نعود”، (ص285).

المكان يطرد ناسه
قد تنسجم الشخصية مع المكان فتحبه وتألفه، وقد لا تنسجم معه فتكرهه، وتشعر بالتناقض معه، فتشعر بعدم الانتماء للمكان، ومن ثم تهجره، هكذا يسهم المكان في تكوين الشخصية، كما أن حياة الشخصية تفسر طبيعة المكان، فالمكان والشخصية كل منهما يؤثر في الآخر، ويتأثر به، كذلك لا يمكن للقارئ فهم تحولات شخصيتي الراوي، والمروي له، وكل شخصيات رواية السّلَفي، إلا داخل إطار المكان الروائي، وبداية من الفقرة الأولى يرينا الراوي ملامح التغير إلى الأسوأ في كل شيء، ففي ص7 “لم تكن البيوت هكذا قبل أن يولد أبوك، كانت من الطين الأسود مثل لحيتك الكثة، ومع ميلادك أنت خلخلها الفلاحون، الذين ترعى في أكبادهم المهترئة وحوش كاسرة لا أحد يرى أنيابها، فأسقطوها فوق تعرجات الشوارع القديمة، وأقاموا مكانها غابات الأسمنت المتجهمة، التي يتعانق فيها الصهد والصقيع”. ثم يردف بصورة من ذاكرته عن ماضٍ يزعم أنه كان جميلا، نقرأ في ص7 أيضا “في هذه الترعة التي تكاد القمامة تسويها بالشارع الذي يعتليها، كانت ترقص دوامات الماء، ونسبح فيها إلى جانب الإوز والبط، وتمرق صغار الضفادع بين أرجلنا وأيدينا”، وفي نفس الصفحة يصف الحديقة بأنها شائخة، هكذا ترصد الرواية أثر الزمان في المكان، في بداية بحثها عن مكامن الخلل والعطب، وتمضي الرواية كاشفة عن فقر المكان وناسه الذين مازالوا يشربون من الزير، وحوائط بيوتهم من “الطوف الذي تتراص فيه جواليس الطين”، (ص53)، لذا كان لابدّ أن يهجروا قراهم هربا من الفقر، وهنا نلاحظ أن حكايات العتبات كشفت عن غرباء كثيرين وفدوا – في الماضي – إلى القرية، واستوطنوها، لكنها اليوم ضاقت بأهلها..
فهناك حسن الذي” أخذه الإخوة إلى أفغانستان، ليجاهد ويقبض ألف دولار في الشهر” أو مشحوت الموعود بمرتب كبير ليحارب الفرس الروافض في القادسية الجديدة، أو الغرب الحاقد في أم المعارك، وفي الحالين “دم ابنك يتقاطر فوق التراب الخطأ”، (ص 161).
ويبين الربط بين ميلاد الابن، وخلخلة الفلاحين لبيوتهم الطينية، عن سبب التحولات، وهو يكمن في سياسات نظام الرئيس السادات، فلم يسع لإحداث تنمية حقيقية، بل أهمل المتاح (انقطاع المياه عن الصهريج)، والانفتاح الاقتصادي دفع الفلاحين لهجرة أراضيهم، ومحاولته لتدجين رجال الدين، واستخدامهم لضرب التوجهات الفكرية لنظام عبدالناصر؛ مما منحهم الفرصة لغرس أفكارهم المتطرفة، مما دفع السّلَفي لاتهام أساتذته في كلية الهندسة بالكفر، وهي التهمة نفسها التي صفع بها أمه وأباه، ثم إلى السفر للحرب في أفغانستان، وغيرها هو وأشباهه. كان ذلك “قبل أن يغدروا به ويخطفوا روحه من دنياهم القاتمة”،
ص 229).
والرواية بتأكيدها على التشابه فكرياً ونفسياً بين المتطرفين تقدم ملمحا رئيسا لهم، وصفحات الرواية مفعمة بشواهد على ملامح أخرى منها استحلال هؤلاء للكذب، وطاعتهم العمياء لأميرهم (مثل مطيع عبدالسميع وأسعد الخروف)، وعدم انسجامهم مع محيطه؛ لذا فهم عابرون للأوطان، وهم كذلك منغلقون أفظاظ، ويصبح حتى خطابهم أداة قتل، “أهي المصادفة التي جعلتني أضع خطابك مكان بندقية جدك”، (ص 285).
كذلك ألمحت الرواية إلى عدم اقتصار التشدّد الديني على فئة دون أخرى، فالعتبة الرابعة تحكي عن العم يوسف أبو سطاسي، الذي تعلم من قس كنيسة العذراء في الزمن الأول، لكن الآن “راعي الكنيسة يقول لنا كلاما غريبا” و “القساوسة يرطنون باليونانية أو بالقبطية القديمة، لنظل نحن مسحورين بالأصوات التي تخرج منأفواههم، ونرفعهم فوقنا”،(ص71).

التصوف مؤقتا
الأب المكلوم في الرواية يعمل محاميا، ولعله كان يترافع عن نفسه لتبرير تقصيره في تنشئة ابنه، وهو بحديثه عن الشيخة زينب” حين تموت سنبني لها ضريحا” (ص11)، وفي هذا السياق يمكن النظر للصهريج الجاف كضريح رمزي للشيخة زينب، حتى في حياتها، فنسوة القرية كن يقصدنه طلبا لبركات الشيخة، أو لتدلهم على ملامح مستقبلهم، وهو في قناعته بنبوءة الشيخة واتباعه لها تأكيد على عدم اختلافه عن غيره ممن لم ينالوا قسطا من التعليم، ويعيشون في مجتمع شبه بدائي محروم من الخدمات. وأزعم أن الرواية لم تقصد بذلك الترويج للفكر الصوفي، وإنما صورت بواقعية مجتمعاً ابتلي بالفقر وتدني الوعي، مثل هذا المجتمع ينقسم ناسه إلى قسمين: إما فظّ قاسٍ يذهب للتطرف، وإما لينٌ متسامح يلجأ للتصوف، والانحياز النسبي للتصوف يرجع لرفض الرواية لنموذجي المتدين الحاضرين بها سواء”السلفي” بسماته التي كشف عنها النص، أو “غندور” الشيخ الذي لم يحفظ القرآن، والمدجّن الأداة في يد العمدة، لذا يبدو الصوفي بتسامحه ضرورة مؤقتة لرأب الصدع، وهناك نموذج رابع أعتقد أنه الشيخ إسماعيل “صوت أجش لكنه حنون، يفضي إلى البكاء، هل تخشع له مثلما أخشع أنا؟ أم إنك أدمنت الأصوات الزاعقة التي تحول كلام الله إلى قذائف صوتية” (ص268)، وفي الصفحة نفسها “هم خلفي يا ولدي لنسمع إلى هذا الرجل الطيب الذي يعلم أهل قريتي طرف من علوم الدين»، وفي العتبة قبل الأخيرة – لاحظ دلالة ترتيبها – صفات أخرى للشيخ تدلل على أنه صنف رابع تعوّل عليه الرواية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى