مجلة سيوانمقالات

فرنسا في الجزيرة العليا (1919-1939)

ياسر عبدو كاتب وباحث – سوريا

مصوّر جوي ومستكشف أثري له الكثير من الكتب والمقالات تخص المنطقة LOUIS DILLEMANN

مقتبس من مجلة التاريخ الفرنسي في ما وراء البحار، المجلد 66، العدد 242-243، 1979. ص. 33- 58.
إن الدور الذي لعبته فرنسا في بلاد الشام قبل عام 1914م لم يؤهلها بشكل مناسب لتكون السلطة المنتدبة وحمل عبء تنظيم وإدارة ما بعد الحرب؛ فبعض كبار المسؤولين لم يكونوا قادرين على توجيه ورقابة مرؤوسيهم، وتصرفوا بجهل وارتجال، واتخذوا مبادرات كانت لها نتائج مؤسفة.
الرواية الرسمية كانت تتجاهل هذه الأخطاء, مثل هذه الحالة تنطبق تماماً في الجزيرة العليا حيث سمحت نشر الوثائق الآن بتحديث معلوماتنا، ونشر ما حدث فعلاً. أول محاولة من الاحتلال فشلت بسبب أخطاء عدة؛ مما حرمت المنطقة من مركزها الإداري والتجاري؛ أي مدينة نصيبين، دون التفكير في البديل بالرغم من أراء المفوضين. بعد هذه التجربة المؤسفة، أصبح للجزيرة العليا مركز مهم (مدينة قامشلي)؛ خصصت لها موارد كافية، وعرفت السلام والازدهار.
في البند المتوافق عليه في اتفاقية أنقرة في 20 تشرين الأول 1921م؛ التي وقعها السيد فرانكلين بوين من الجانب الفرنسي بموجبها تتخلى فرنسا عن كيليكيا، وتقبل شرق الحدود المثبتة, فرنسا هنا لم تقدّر المعطيات العرقية أو اللغوية، (الإحصاء التركي في عام 1927م أحصى 183471 نسمة في ولاية ماردين، كانت نسبة الأتراك فقط 11764 (6،5٪) مقابل 52000 عدد العرب و 110000عدد الكرد).
لم يقدم ترسيم الحدود أي صعوبة مع وجود السكة الحديدية، ومن هناك توجب المسير إلى جزيرة ابن عمر، محور المشاريع السابقة, ثم ينحدر جنوباً مع نهر دجلة لمسافة خمسين كيلومترا.
ولمدة عامين، ومع استخدام الخرائط التركية كان يتوجب الحذر لعدم دقتها، فكان المفاوضون لا يثقون باستعمالها، فوضعوا نصيبين شمال السكة الحديدية، وحددوا “الطريق القديم” بين هذه المدينة وجزيرة ابن عمر.
بالتناظر، اتخذت السكة الحديدية كالحدود، وعهدت إلى تركيا، ولكن يحق لسوريا استخدامها أيضاً. هذا البند سيثبت فداحة ترسيم الحدود بهذا الشكل، بالنسبة للأتراك استطاعوا صياغة المادة 8 من الاتفاقية بشكل جيد.
بعد معركة بياندور عام 1923م، كان الاحتلال الفعلي يقتصر على الخابور. تم تثبيت ضابط مخابرات في الحسكة مع مفرزة من الدرك المتنقل، تحت حماية سرية مشاة. أول من استلم قيادة الموقع كان الملازم بيير ترييه، وهي نفس وظيفة روكار (الذي قتل في بياندور) وكاريه، وعرف الجمع بين الحيوية والرياضيات، وهذه هي الصفات المطلوبة لتنفيذ توجيهات قادته، ولكن كان يتوجب عليه المتابعة بصبر سياسة الاختراق دون أن يلزم نفسه إلى حدّ إجبار قادته على دعمه. استمر في منصبه بين عامي 1923- 1927م؛ حيث أوجد الاستقرار المطلوب للنجاح في مهمته.
استمرت فكرة إنشاء قضاء إداري في تل جولك 16 كم جنوب نصيبين، وعلى مجرى نهر جغجغ (خريطة)، كما كان لطفي بك (القائم مقام السابق للجزيرة، والذي قتل قبل معركة بياندور) أوصى قبل ذلك. ولكن هذا المرة وبقرار (مرسوم) من الحكومة السورية نص بإنشاء نظام خاص برئاسة ضابط مخابرات، يدعى المستشار التنفيذي وبيده كل السلطات. كما اقترح الضابط بونو في عام 1922 المكان المقترح للقضاء عرض على قدور بك (قائم مقام نصيبين) فلم يرفض، ولكن في الواقع لم يترك نصيبين قبل تأمين المال لبناء المباني، وتسوية أحوال بعض رجال الدرك. في أوائل عام 1924، بدا من غير الضروري إطالة هذا الوضع, فوافق قدور بك على تقديم استقالته.
كان الملازم ترييه لديه وسائل أخرى للاتصال مع السكان. فمن خلال التجارة تشكلت العلاقات، وخاصة عندما أصبحت الحسكة تتمون بالوقود من محطة رأس العين، والتي أثبتت تفوقها على نصيبين.
إن التوقيع على معاهدة لوزان 1923م جلب الهدوء إلى الحدود، وجعل من إسماعيل حقي مرفوضا بشكل قطعي في المنطقة.
وكان على الملازم ترييه أن يتنبأ بظروف الاحتلال المستقبلي, فقد أثبتت التجربة على ضرورة مراعاة التقسيم الإداري السابق؛ حيث قضاءان تركيان هما نصيبين وجزيرة ابن عمر، يجب أن يتناسب مع اثنين من الأقضية السورية لتأسيسهما في عمليتين منفصلتين؛ على أن يكون أحدهما مركز قضاء في البداية، وفقاً للجنرال بيوته نصيبين كانت التهديد المستمر؛ وبما أنه لا يمكن استعادة المدينة، أو تدميرها، كان من الضروري استبدالها بأخرى تتمتع بنفس المزايا؛ حتى لا تضعها في حالة من الدونية، بالتأكيد هذا كان غريباً لإنشاء مركز قضاء على الحدود. ولكن كان هذا نتيجة تثبيت الحدود على السكك الحديدية.
في تقرير مؤرخ في 5 حزيران 1925، أرسل ترييه موضحاً لرؤسائه:
“المركز الحيوي للمنطقة الشمالية هي نصيبين، ولا يمكن أن تكون إلا نصيبين، بسبب موقعها على خط بغداد من جانب، وعلى منبع نهر جغجغ؛ الشريان الرئيس للجزيرة العليا من جانب آخر. المركز الحيوي بدون جدال هي نصيبين، المركز الجديد يجب أن يستوفي في المقام الأول الشروط الموضوعية حتى تحل محل مركز القضاء القديم (نصيبين)، لذلك فإن أفضل خيار ستكون هي الناحية التي تقع أقرب ما يكون إليها”.
بعد ثورة الشيخ سعيد، وسلوك الدولة التركية الجائر، عرفت فوائد فرض القانون في المنطقة المجاورة، فقامت بتغير كامل في سياستها، فطلبت الآن من فرنسا احتلال كل الأراضي المعترف بها في المعاهدة لصالح فرنسا. هذا التغيير سمح لفرنسا بتعيين مدراء والدرك في كل من قرية قرمانية وعامودا في 18 أيار 1926م.
في 30 مايو 1926، تم التوقيع على اتفاق جديد في أنقرة, من خلاله تتعهد فرنسا بحل النزاعات الحدودية شرق نهر دجلة، لذلك كان من الحكمة الإسراع بإنشاء موقع ثابت على الفور.
غادر ترييه الحسكة في 5 آب 1926 بعد خدمة ثلاث سنوات، بعدها جاء غيرفال، واتخذ نفس الأسلوب لجمع ما تبقى من حملته. أما قدور بك فوصل قامشلي، وسكن في مزرعة بعد الترحيل كأحد أعيان الأكراد، بعد أن كان قائم مقاماً تركياً، والآن سورياً. ورافقه السرب الثاني والثلاثون من الحرس الجوال وثلاث مدرعات صحراوية خفيفة.
الجنرال بيوته، ومنعا لعودة الأيام المظلمة من عام 1923، ذهب لدراسة الحالة على الأرض. ترييه أعرب بصراحة عن رأيه؛ فقال إنه من غير المجدي انتظار السلام طالما أن السلطة الانتدابية لم تبد رغبتها في البقاء من خلال إنشاء بلدة رئيسة في القضاء تحت الحماية التي لا غنى عنها لقوات نظامية.
عند رحيل الجنرال بيوته أعلن عن قراره: في غضون أربعة أيام سيتم الحصول على الوسائل اللازمة، أو أن ترييه سيعود إلى المؤخرة.
الجنرال جاملان، القائد العام، لم يتردد، سمح الوضع بإرسال كتيبة من 850 رجلاً تحت إمرة الكوماندان موندييلي، وبدأ ببناء الموقع، لاحظ الجنرال بيوته التأثير الجيد عندما عاد في 9 أيلول، سبقه إعلان عفو غير مقيد.
وقبل مغادرته، توجه الكوماندان موندييلي لإنشاء مخفرين في كل من عامودا ودرباسية، واستكمل في العام التالي اثنين آخرين في كل من قبور البيض ودمير قابو. يسمح هذا الإطار على سير العمل بشكل اعتيادي للقضاء الذي تمّ تثبيت مركزه في القامشلي.
وضع ترييه مخطط المدينة، وساعد على ذلك المسّاح اليوناني، فقد خطط على الأرض البكر شبكة تربيعية مبتكرة، وغطت بسرعة بالسكان.
مشكلة الحدود لا يمكن أن تترك معلقة إلى أجل غير مسمى, وقد عهد تنظيمها إلى عصبة الأمم التي عينت محكماً – وهو الجنرال آرنست؛ مفتش من المدفعية الدانماركية – إلى (جانب) قرار المفوضين الذي وعدت الدولتين الموافقة عليه؛ تم إجراء التحكيم في 10 يناير 1928، ولكن كان الرفض من قبل اللجنة التركية لأنه تم اعتماد الأطروحة الفرنسية.
فعادت الاضطرابات بشكل سريع؛ امتدت من تل كوجر إلى عامودا. بعد فشل إجراءات التحكيم، عادت الحكومة الفرنسية للنظام القديم من التنازلات المتبادلة. في الواقع، الأتراك لم يبالوا بفقدان بعض القرى؛ لأنهم بحاجة إلى ورقة مساومة للحصول إلى فوائد كبيرة لشركة السكك الحديدية الفرنسية (B.A.N i)، حالما كانوا راضين عن هذا الجانب، قبلوا قرار الجنرال آرنست الذي أقر اتفاق أنقرة الجديد الذي وقع في حزيران 1929م.
نظمت الاتفاقية العلاقات الحدودية، أحد بنودها كانت مزعجة لسوريا؛ حيث تم توفير شريط من 30 كيلومترا من جانبي الحدود، والتي تسمح للموقعين ملاحقة (المنشقين المخربين)*. لكن في سوريا، كانت السهوب أكثر من بعد 30 كم، لذلك كان الأتراك المستفيدين الأكبر.
تاريخ الجزيرة العليا لم يعد من الآن وصاعداً إلا نحو التطور الاقتصادي، منذ أن تم وضع مخطط القامشلي على الأرض، تحققت توقعات قدور بك، وبونو عام 1922. فعابرو الحدود ومنفصلون عن أهلهم، ومالكو العقارات وأصحاب المحال الجدد أصبحوا سوريين.
سرعان ما أصبحت قامشلي مدينة حديثة. كانت الدولة في قلب تصميم المباني الإدارية، مدراس، ومستوصفات، جسور. كل جماعة دينية أرادت لها مكاناً للعبادة؛ متعهد خاص استطاع بناء فندق، وحمام. قدور بك سمح لمهندس يوناني بتحويل مطحنته إلى محطة لتوليد الكهرباء، لتوفير الإضاءة للمنازل والشوارع، والتي كانت نادرة في المنطقة.
وحصلت عامودا ودرباسية على جزء من هذا الازدهار، وأصبحت بلدات تجارية صغيرة. حتى درباسية فتحت فيها مدرسة هامة من قبل دومنيكان الموصل.
في عام 1931، وصلت ميزانية البلدية في القامشلي إلى 360000 فرنك فرنسي، في عام 1936، اجتازت المليون فرنك، وفقا لتقرير لجنة الانتداب؛ ستّ مدن سورية فقط بلغت هذا الرقم، أو تجاوزه، وعدد السكان قدر بحوالي 20000 نسمة.
*( المنشقين المخربين) وردت في الوثيقة بهذا التوصيف

Sectarianism in the Syrian Jazira: Community, land and violence in the memories of
World War I and the French
mandate (1915- 1939)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى