مجلة سيوانمقالات

الرسالة التي غيرت مجرى الحرب العالمية الأولى

لازكين أحمد
كاتب ومترجم – سوريا

في العام 1917، وبينما كانت الحرب العالمية الأولى مستمرة في أوروبا، لم يكن الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، المؤمن بمبادئ الحياد السياسي، أو الرأي العام الأمريكي اللامبالي، يهتم كثيراً بما كان يجري هناك في الصراع الأوربي في الواقع؛ فقد كان ويلسون قد أُعيد انتخابه للتوّ، تحت شعار “أبقانا خارج الحرب”، لكن مع ذلك فإنّ حدثاً ذا أهمية كبرى في ذلك العام سيغيّر الموقف من الحرب بشكل عام، ومن ألمانيا بشكل خاص. كان ذلك نشر ما سيُعرف، فيما بعد، ببرقية زيمرمان، وسبب تلك التسمية أن كاتب البرقية هو آرثر زيمرمان، وزير خارجية ألمانيا الملكية، الذي عرض على المكسيك، المعادية للولايات المتحدة في ذلك الوقت، تحالفاً مع ألمانيا لتزودهم بمؤن عسكرية ضخمة؛ ليستخدموها بكل حرية في استعادة تكساس ونيومكسيكو وأريزونا، كما طرح على الرئيس المكسيكي أيضاً بأن تتم دعوة اليابان، الحليفة الرمزية، لكن ذات الشأن بالنسبة للولايات المتحدة، بالانضمام للعقد الألماني- المكسيكي.
بطبيعة الحال، عندما أصبحت المحاولة الألمانية، لجلب الحرب إلى الأراضي الأمريكية المحايدة معروفة، واعترف زيمرمان بكتابة ذلك بشكل يصعب تفسيره، تغيّرت النظرة الأمريكية لألمانيا رأساً على عقب.
في ألمانيا جرى تحقيقٌ دقيق لكيفية وصول البرقية السرية للغاية، والمشفّرة إلى يد حكومة الولايات المتحدة. في تقرير ذلك التحقيق ختم الألمان بأن الشيفرة لم تُخترق، ونسبوا الأمر للخيانة. في الحقيقية لم يكونوا مخطئين؛ لأن اكتشاف برقية زيمرمان كان الانتصار الأكبر لعلم التشفير في الحرب العالمية الأولى؛ فمنذ اليوم الأول من الحرب قطع البريطانيون سلك الاتصالات الممتد عبر المحيط الأطلسي، مجبرين الألمان على أن يرسلوا جميع برقياتهم، إلى النصف الغربي من الكرة الأرضية، عن طريق بلدان محايدة، أو من خلال أسلاك تمرّ من بلدان تحت سيطرة أعدائهم. وفي الوقت نفسه، سارعت الحكومة البريطانية إلى تطوير مكتب الكتابات السرّية الذي كان هدفه قراءة حركة سير الأعداء، كانت هذه الهيئة تعرف بالغرفة أربعين، بسبب موقعها في مباني إمارة البحرية البريطانية القديمة، بعد تزويدها بموظفين على درجة عالية من الكفاءة، فقد ساعدها الروس أيضاً بعد استيلائهم، بالصدفة، على كتب شيفرات البحرية الألمانية في بحر البلطيق، فازدادت أهمية الغرفة وقدراتها.
خلال أول عامين من الحرب كانت الغرفة (أربعون) تركّز بشكل أساسي على حركة مرور النظام التعبوي البحري، وبعد أن ساعدت نجاحاتها البحرية البريطانية بحجز الأسطول الألماني، تحوّلت لقيمة أكثر أهمية، وذلك بخرق البريد الألماني. في السابع عشر من كانون الثاني عام 1917 قُدّمت لها فرصتها الكبرى في الحرب. ففي صباح ذلك اليوم اعترضت الغرفة رسالة ألمانية دبلوماسية مشفّرة، موجّهة من وزير الخارجية زيمرمان إلى السفير الألماني لدى واشنطن، فون بيرنستورف. لكن كيف تم ذلك؟
كانت السويد دولة محايدة، لكنها كانت موالية لألمانيا، من هنا فقد كانت تنقل رسائلها. كان البريطانيون قد تمكنوا من شق السلك السويدي، الذي كان يمرّ من انكلترا، إلى أمريكا الجنوبية، وأخذوا فرعاً منه ليستمعوا إلى الرسائل. من هذا الطريق أرسل زيمرمان نسخة من البرقية، مع تعليمات بأن يرسلها السفير الألماني في بوينس آيرس لواشنطن؛ ليتأكّد من وصولها أرسل زيمرمان الرسالة بطريقة أخرى، أكثر بعداً وجرأة أيضاً؛ فقد أرسلها السفير الأمريكي في برلين إلى وزارة الخارجية في واشنطن، التي بدورها، سلّمتها باليد للسفارة الألمانية. هذا الإجراء تمّ، من المحتمل، من قبل ويلسون، الذي كان يحاول التوسّط لوضع حدّ للحرب، وعرض إرسال الرسائل الألمانية الدبلوماسية لواشنطن عندما احتج الألمان بأنهم غير قادرين على التواصل، بسرّية تامة، مع سفيرهم هناك في طريقها إلى الولايات المتحدة، لكي يسلّمها السفير الألماني للمكسيك، انتقلت هذه النسخة من كوبنهاغن إلى لندن، حيث حصلت عليها الغرفة أربعون.
تمّ فكّ رموز كلا النسختين بواسطة الشيفرة 0075، التي كان الانكليز، قبل ذلك، قد فكّوها جزئياً. بوجود النسختين تحت تصرفهم، استطاع الانكليز معرفة محتوى الرسالة. أمر وليام هول، قائد البحرية ومدير استخباراتها، ورئيس الغرفة، بأن يبقى أمر البرقية سرّاً عن كافة الوكالات الأخرى، بينما يحاول مفكّكوا شيفرات الغرفة ملأ فجوات الرسالة.
في الخامس من شباط عام 1917 تمّ إكمال المهمة. كان من الواضح بأن البرقية على درجة كبيرة من الأهمية، وأخيراً ستجرّ الولايات المتحدة للحرب إلى جانب الحلفاء؛ هدف بريطانيا الطويل الأمد. لكن كان لا يزال هناك بعض المشاكل التي تحتاج لحلول قبل مشاركة الرسالة مع حكومة الولايات المتحدة. أولاً، فالغرفة أربعون هي واحدة من كبرى أسرار الحكومة البريطانية. فوجودها كمصدر لهذا الخرق يجب أن يخفى عن الألمان، وعلى نحو مماثل، يجب أن يخفي البريطانيون بأنهم يقرؤون البريد الأمريكي، لمسألة حساسة؛ حيث كانت بلداً محايداً. وثالثاً، كانت الرسالة لا تزال تحوي بعض الفجوات؛ ما قد يقود الأمريكان للاستفسار عن مصداقيتها، أو معانيها الحقيقية.
خطرت له فكرة ذكية لحلّ المسائل الثلاث؛ مستعيناً بشخص في مكتب البريد بمدينة مكسيكو استطاع هذا الأخير الحصول على النسخة غير المشفّرة من الرسالة التي أُرسلت للسفارة الألمانية من واشنطن. هذه النسخة كانت بالرمز 13040؛ لأن سفارة المكسيك لم تكن تستخدم الرمز 0075.
حيث كان الرمز 13040 قديماً، وأقل تعقيداً، فقد استطاع البريطانيون استعادة كامل الرسالة، وقراءة نصها كاملة بشكل صحيح، ما مكنهم من ملء الفجوات. بالإضافة، وبما أنها كانت مرسلة؛ فقد تمّ إعطاؤها تاريخاً وعنواناً جديدين، من قبل سفارة واشنطن. ما سيقنع الأمريكيين بأنه تمّ الحصول عليها في مكسيكو، يقود الألمان للاعتقاد نفسه. من هنا فإن دور الغرفة أربعين سيبقى سرّاً.
في الثاني والعشرين من شباط سلّم البريطانيون مذكرة زيمرمان للسفير الأمريكي والتر بيج، لكن شريطة ألّا يتمّ ذكر البريطانيين كمصدر للبرقية، الأمر الذي قبله بيج. أما حيلة الحصول عليها من سفارة المكسيك فقد انطلت على الطرفين. في الرابع والعشرين من شباط أرسل بيج البرقية لويلسون.
بأمر من ويلسون، في الأول من آذار كانت البرقية حديث الصحافة في الولايات المتحدة، الأمر الذي أدى لسلسة من الأحداث غيّرت كلياً موقف الأمة من أهداف ألمانيا في الحرب، فبعد ذلك بخمسة أسابيع، وتحديداً في السادس من نيسان عام 1917، أعلن الكونغرس الأمريكي رسمياً الحرب على ألمانيا وحلفائها.
من المحتم؛ لأنه حتى بدون رسالة وزير الخارجية الألماني الموجّهة للمكسيكيين، فإن ظروفاً أخرى كعدد الضحايا الأمريكيين المتزايدة، أو الخسائر التجارية الجسيمة الناتجة عن حرب الغواصات الألمانية غير المقيدة، كما حصل في غرق السفينة (آر إم إس لوسيتانيا)؛ حيث قتل 128 أمريكياً في الـ 7 أيار 1915- كانت ستجلب حتمياً الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحرب، لكن بدون أدنى شك، فإن برقية زيمرمان عجلت بتلك الحتمية، على نحو كبير، فكان بكل وضوح الانقلاب الأكبر الخاص بعلم الرموز في الحرب العالمية الأولى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى