مجلة سيوانمقالات

طعم مختلف

ممدوح عبد الستار روائي وقاص – مصر

وقف “صابر” كتمثال لا يحبه، مثل تلك التماثيل الواقفة بشموخ في الميادين العامة. كان تمثالاً لا يُشبه تلك التماثيل، منكمشاً على نفسه، ناظراً إلى قدمه المُوحلة، دافساً يديه في جيوبه، منحنياً نصف انحناءة، تاركاً قفاه للبرد، ولرذاذ المطر الخفيف. ظلّ “صابر” على وقفته تلك أكثر من ساعة، حتى أن الخفراء خافوا منه، وهرولوا بعيداً عنه، وارتكنوا بجوار بيت طيني مُعرش بأعواد من الذرة والقطن. كانت دواخلهم مرتعشة مثل جوارحهم، وظلّوا فترة من الترقب، وتبلورتْ داخلهم معانٍ ومشاعر افتقدوها في زحمة الوقت الراهن والجاثم على حياتهم. كان الوقت بلا عقارب أمامية أو خلفية. كانوا بلا ماضٍ أو مستقبل، بلا خيالٍ أو وهم. كانوا في الوقت الذي بدد الحياة وبهجتها المعروفة لديهم. لمّا تحرّك التمثال؛ حرّك فيهم الرغبة في العودة من جديد لحياتهم. فجأة، كانت تلك الأدعية المحفوظة هي المتكلم الرسمي عن تلك الحالة. وبعد أن تقيّأوا ما في جوفهم من أدعية، وهدأت جوارحهم، تركوا «صابر» وهو يخلع قميصه، رافعاً رأسه لأعلى، محاولاً أن يجمع رذاذ المطر على كفّه المبسوطة، وأخذ يلحس ما تجمع من قطرات. في هذه اللحظة. بكى بشدة، وجلس القرفصاء وسط الشارع، وتذكّر أول مرة ذاق فيها طعم المطر.
تنفس “صابر” بصعوبة، وهو – يتذكر – يخرج من المبنى الضخم للشارع العمومي، ممسكاً بيده اليسرى ورقة مختومة بخاتم أمن الدولة، وباليد الأخرى ورقة مدون فيها اسم الدواء الذي يجب أن يأخذ جرعته لمدة ثلاثة أشهر كما قال له الطبيب. اقشعر بدنه الهزيل من لسعة البرد، ولفّ حول عنقه الضئيل كوفيته الصوف، وشدّ ياقة قميصه المتسخ التي تفوح منه رائحة العرق المعتق. وتيقّن من إقفال الزر الأول من القميص. وقبل أن يخطو للشارع، نظر للخلف، فوجد الحارس يشير إليه بالابتعاد. ابتسم للحارس الذي بادله الابتسام على مضض.
سار “صابر” في الشارع، ورفع بصره للسماء الملبّدة بالغيوم، مثل الأفكار التي يحملها في رأسه. دقائق قليلة، وتصلّبت يداه. همس لنفسه مشجعاً، وبصوت مسموع لجوارحه الباردة الآن: (المهم: أن أحافظ على الورقة) وحرّك ذراعه اليسرى، التي تحمل قبضتها ورقة أمن الدولة، ثم هرول في سيره، وكانت حركته سريعة رغم إرهاقه، وهزاله، وقلّة الطعام، وأشياء أخرى، وراجع في ذهنه عدد الساعات التي ظل فيها مستيقظاً، فوجدها لا تعد ولا تحصى، وكاد يقع من طوله، كأنه تذكر التعب. تماسك، وابتسم بصعوبة لمّا رأى صيدلية قريبة، ثم انتفض من الخوف، فالدواء المدون بالورقة مختفٍ مثل الشمس في تلك الغيوم.
البرودة القاتلة، والدواء المختفي، والعودة إلى حياته، كل هذه الخواطر بذهنه وهو سائر، والسماء تمطر بلا انقطاع. والظلام الذي – جاء قبل موعده – حلّ ضيفاً، وهدوء الشارع ساعد روحه في استعادة ذكريات مماثلة. وبالشيء الباقي المتمثل في تمسكه بالحياة؛ جرّ جسده الهزيل، ودلف إلى الصيدلية. كان جسده مرتعشاً مثل روحه. نظر إليه الطبيب، وسار نحوه، ثم أجلسه أمامه؛ فأعطى «صابر» يده اليمني للطبيب الذي فرد أصابع يده بصعوبة، ونظر للورقة المدون فيها اسم الدواء. ظل الطبيب يبحث، ثم عاد

  • آسف! غير موجود.
    نطق «صابر» بصعوبة، كأنه استفاق:
    -هه!
    هزّ الطبيب رأسه في حيرة، وقال:
    -للآسف، هذا الدواء بالذات يختفي، ثم يعود فجأة، لكن عندي بديل مصري!
    -بديل.. بديل. لا يوجد بديل لأي شيء!
    وخرج إلى الشارع. ومازالت السماء تعلن عصيانها، وبدأت أذنه تئن من البرد. ازدحم ذهن «صابر» بالأفكار وهو سائر. وكان السؤال الذي نسي به البرد قليلاً: (هل يوجد بديل مصري حقيقي، يُغني حياتنا، ولا يأخذ منها ؟) وبدأ الجوع يأكل تفكيره، وكان موقف الحافلات على بُعد خطوات قليلة. وقبل أن يركب الحافلة، قرر أن يشتري سندوتشا ساخنا. وضع يده اليمنى في جيب بنطاله. وبصعوبة، أخرج النقود الورقية التي أعطاها له الرجل الذي كان يستجوبه في المبنى الضخم، وتساءل “صابر”: (لماذا أعطاني هذه النقود؟) لم يجد إجابة مثل كل الأسئلة التي تدور في ذهنه، وبدأت الأمطار تهدأ، وكفّ الهواء المحمل بالرذاذ عن مداعبة شعره الطويل الأسود. وقف “صابر” أمام محل للطعام، وتأمل اللافتة المكتوبة بلغة أجنبية، ثم قال:
  • سندوتش كبير لو سمحت!
    وقدّم للرجل الجالس بمدخل المحل النقود، وناوله الرجل “البون” وباقي النقود، ودلف “صابر” إلى المحل، ولفحته نسمة دافئة من جهاز “التكييف” ثم وقف منتظراً السندوتش، وتمنى أن تطول فترة انتظاره في هذا الدفء المصنوع. انتهى العامل الواقف خلف الزجاج، وأعطى “صابر” كيسا أنيقا من فتحة صغيرة. أومأ “صابر” برأسه للعامل، وابتسم نصف ابتسامة، وهبط إلأى الشارع مرة أخرى. وبدا له الطريق لا ينتهي، والجو يزداد برودة، والحيرة تشتد به وهو يبحث وسط الشارع عن صيدليات. وبالفعل وجد صيدلية أخرى. وكالعادة، ظل الطبيب يبحث.
  • غير موجود.
    هزّ “صابر” رأسه. وقبل أن يخرج؛ سمع الطبيب يقول له:
  • ربما تجده في…
    وذكر اسم المكان. ما الذي جعل “صابر” مصرّاً على الذهاب لتلك الصيدلية؟ ربما تكون الرغبة في قتل الوقت والبرد الذي يحتاج إلى الحركة، وربما يكون الإصرار الذي تولّد من عتمة نفسه. سار بلا أي طموح، أو رغبة حقيقية، حتى أنه لم يسأل أحداً عن الصيدلية. لفّ المنطقة كلها، ولم يعثر عليها. وفي هذه اللحظة، كان قلبه خالياً من أي مشاعر تذكر. مشى خطوات قليلة، ثم نظر للخلف كعادته، فلمح صيدلية منزوية، لم يفرح، ولم يدخل مسرعاً. فقط، ظل واقفاً ينظر من الزجاج. كانت الطبيبة تجلس شاردة. وقعت عيناها على الجريدة، حاولت أن تقرأ العناوين للمرة الألف. نفس العناوين التي تقرأها كل يوم منذ أن قررت أن تقتل الوقت. طوت الجريدة، وألقتها بإهمال على المكتب مثل كل يوم: (ستكون مفيدة في تنظيف الزجاج) هكذا قالت لنفسها، وابتسمت ابتسامة ساخرة بزاوية فمها اليسرى. كانت فتاة في العقد الرابع من عمرها، تحاول أن تطرد الملل من حياتها، وكثيرا ما تغمض عينيها، تحلم بما تشاء. منذ زمن كفّت عن هذا الفعل السحري. مجرد فرضية الحلم الآن في حدّ ذاته حلم! أغمضت عينيها أكثر، وعادت بمقعدها للخلف ليرتكن على الجدار الذي خلفها، وأخذت نفساً عميقاً، واسترخت لعل الحلم يأتيها ولو مرة أخيرة. أصدر باب الصيدلية صريرا هادئا، فلم تفتح عينيها، متوقعة أن يأتيها الحلم البشري الذي تستطيع لمسه، وظلت تتأرجح بالمقعد للأمام وللخلف في صمت مبجل.
  • إذا سمحتِ.
    وصل الصوت لأذنيها، فلم تبد اهتماماً للوهلة الأولى كأنها سمعته. الغريب أن الصوت بدا لو كان قادماً من حلم ما عايشته قديماً. ولما تكرر الصوت، فتحت عينيها بسرعة، وتحركت لا إرادياً، ففقدت توازنها، وكادت تسقط على ظهرها. واستندت على المكتب، وقد تهدل شعرها على عينيها، وقالت وهي تتلعثم، وما زالت عيناها شبه مغلقة:
  • تحت أمرك!
    قال الرجل:
  • أريد مسكّناً.
    لا إرادياً تحركت باتجاه الدرج الخلفي الذي فيه المسكنات، وتساءلت بصوت هامس:
  • أي نوع من المسكنات؟
    تنهد الرجل، وكان يحاول أن يجمع كلمات للرد، لكنه لم يستطع. وكانت ما تزال تبحث، وتنتظر منه رداً. قال الرجل بصوت خفيض:
  • لألم الحياة.
    تسمرت يداها فجأة، وظنت أن سمعها قد خانها، لكنها نفت ذلك.
  • هه!
    ونظرت للرجل بريبة. تهاوى الرجل، وجلس على أقرب مقعد خلفه، ودفن رأسه بين يديه، وأخذ يهتز، وأجهش بالبكاء معلناً عن لحظة لا يريدها أن تظهر في مكان آخر. ظلت واقفة تتأمله. ما أثار دهشتها فعلاً: أن يبكي الرجل أمامها. من أين أتت له هذه الجرأة؟! وهى لا تستطيع أن تبكي أمام نفسها في الخفاء أو العلن. تنبهت أنها تركت الرجل يبكي، فاندفعت من خلف “الكونتر”، وربتت على كتفيه في هدوء، فرفع عينيه المبللة بالدموع. وظل ينظر كل منهما للآخر، حتى دخل “صابر”.
  • وأنت ماذا تريد؟
    ناولها “صابر” الورقة المدون عليها اسم الدواء.
    -البديل المصري موجود؟
    ابتسم لها في سخرية، وقال:
  • البكاء.
    وخرج “صابر” يجرّ قدميه، وقد نسي تماماً أمر السندوتش الساخن. وتذكر ألمه الذي كلّفه ثمناً باهظاً لم يفعله من قبل، ووقع على إقرار، وعلى تعهدات، وعلى أوراق فيها أسماء يحبها. وتذكر كيف تحمّل الألم لأيام كثيرة، وظل قوياً كفكرة صحيحة، لكن ألم جسده عاند تلك الفكرة، وانتصر في النهاية.
    في هذه اللحظة، تعذب من فكرة التنازل. ولأول مرة، تتغنى العين بعذابه، وتذرف بعضاً من الدموع العالقة بها منذ ولادته وهو يعبر الطريق إلى الجهة الأخرى.
    تحولت المدينة لشيء غامض وصامت، لا يسمع فيها إلا صوت دموعه وهذه الأمطار التي تسقط على الأرض، وتتحد مع تلك الدموع، وحاول أن يوقف أي حافلة وهو شارد. ولم ينتبه للعربات المسرعة التي نثرت مياه الأمطار. ابتلّت ملابسه، فارتجف من البرد، وتنهّد، وابتعد عن برك المياه قدر الإمكان. وبعد فترة، توقفت سيارة. مسرعاً جلس في داخلها، وأخذ يتأمل الأمطار وهي تداعب الزجاج بوداعة وحب، بدت له غير متوفرة. تنهد مرة أخرى.
  • آه من تنهيدة الحزن!
  • هه!
    واستفاق “صابر” من شروده، ونظر باتجاه الصوت، فوجد عجوزاً قارب على المائة. ملامحه تشبه إلى حدّ كبير ملامحه التي لم يرها منذ فترة. ابتسم “صابر” للرجل العجوز، ولم يجبه.
  • تبدو حزيناً؟
    نظر “صابر” للرجل العجوز المُصرّ على مواصلة الحديث، فوجد ملابسه رثة، لكنه يحمل شيئاً ما يُضفي عليه قوة. لم ينشغل “صابر” بما لاحظه، وقال للعجوز بصوت مرتجف:
  • قرف من الحال العام.
    شرد العجوز كأنه يتذكر مواقف عاشها، تعينه على مواصلة الحديث والتواصل، وقال:
  • لك حق.
    ونكّس العجوز رأسه، وقال بصوت هامس:
  • أيامكم صعبة. لا حب، ولا تواصل، ولا..
    واغرورقت عيناه بالدموع، كأنما تذكّر بعض ماضيه.
    تعجب “صابر” من حديث العجوز، وقد بدا له ودوداً، وكلامه صحيح إلى حدّ ما. “وصابر” في أيامه الأخيرة لم يكن يحب الحديث مع الغرباء. لقد عانى كثيراً من تلك الآفة. وبسبب تلك الأحاديث، واجه صعوبات كثيرة، واستجوابات أكثر. قال لنفسه: (ربما يكون من الأمن) وشرد «صابر» في تلك الذكريات الصغيرة التي ألمّت به، وجعلته عُرضة للمطاردة الدائمة، وقال بلسان الحال: (الكلام مجاني، الفعل هو الأهم) لكنّ الرجل العجوز قاطع ذكرياته الصغيرة، وأكمل حديثه:
  • وبالرغم من كل شيء، هي جميلة، ونحبها. نعم. نحب الحياة.
    أزاح “صابر” رأسه إلى الناحية الأخرى، وأخذ يتأمل الأمطار التي تداعب زجاج السيارة. مدّ العجوز يديه إلى وجه “صابر”.
  • انظر إلي. أنا عجوز، لكني ما زلت أحلم، وابتسم، وأتذكّر كوني طفلاً صغيراً.
    أجزم “صابر” أن الرجل العجوز يعيش لحظة فائتة الآن، وكاد يقول له: (احلم بعزرائيل كما شئت) وحين رأى العجوز أن “صابر” ينظر للمطر بشغف؛ قال:
    -هل تذوقت الأمطار من قبل؟
    انتبه “صابر” للسؤال، وابتسم، وقد راق له الحديث، فقال متسائلاً:
  • وهل للمطر مذاق يا عجوز؟
    اكتسى وجه العجوز بابتسامة حنون، وقال:
  • تخيّل مذاق المطر وأنت تجلس مع حبيبتك، سيكون بطعم الورد. وتخيّل مذاق المطر وأنت حزين، سيكون كملح البحر. وتخيّل مذاق المطر وأنت وحيد، سيكون كالصبّار.
    ثم سكت العجوز فترة. وكانت العربة ما زالت تسرق الطريق بسرعتها.
  • افتح زجاج النافذة، وضع قطرة من المطر الآن على يديك.
    مطّ “صابر” شفتيه. ورغماً عنه،فتح النافذة، ومدّ يده اليمنى لقطرات المطر. لسعه البرد، فسحب يده التي علق بها بعضٌ من قطرات المطر. أومأ له العجوز كي يتذوقها. قرّبها “صابر” لشفتيه، وهو يبتسم لتلك الحالة الجنونية، وتذوقها بطرف لسانه، وقال:
  • ليس لها أي طعم.
    هزّ العجوز رأسه بالموافقة كأنه توقع هذا الرد، وقال:
  • قلبك خال من الفرح، ومن الأمل.
    تنهد “صابر”، وأطبق قلبه على مواصلة الحياة أياً كانت، ثم نظر للسندوتش الذي صار بارداً. أخرجه من الكيس، وناوله للعجوز.
  • تفضل.
    مدّ العجوز يديه وهو يبتسم، وأخذ يلتهم السندوتش بسرعة. قال “صابر” للعجوز:
    -أنت مثل الحياة.. مجنون.
    ضحك العجوز، وقال مداعباً:
  • المهم، أن تكون أنت عاقلاً.
    ابتسم “صابر” ابتسامة صافية، رمّمت كل وجهه المتشقق من حزن الأيام الماضية، وقد اقتربت محطة نزوله.
  • هنا يا اسطى. إلى اللقاء يا عجوز.
    وقبل أن يغلق “صابر” باب العربة، قال العجوز:
  • “صابر”. اسمي”صابر”.
  • وأنا..
    وضاع صوت “صابر” بابتعاد العربة، وبحث عن الدواء الذي لا وجود له، لكنه كان يسمع كلمة البديل المصري. في هذه اللحظة، شعر “صابر” بالدموع وهي تنزلق رغماً عنه. تحسسها بطرف لسانه، لكنها لم تكن بأي طعم مما وصفه العجوز. لقد كان لها طعم آخر.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى