مجلة سيوانمقالات

الهروب إلى الزحام

عبد الرحمن العوسجي
كاتب قصة – سوريا

خرج شخير شاحنة أبي صلاح مع زمور عالٍ لينبه الجميع إلى جهوزية الانطلاق، طارت حمائم سالم، واستنفر الكلب الكسول الذي كان يستظلّ بجدار البيت.
انتهى كل شيء.
أبو سالم مُصِرٌّ على الرحيل، محاولات الجيران وبكاء الصغار الملتفين حول العربة لم تنجح بجعله يعود عن قراره، والداي وأخي الصغير خالد ركبوا جميعا بجانب السائق، ست صبايا تكورّنَ متلاصقات فوق كومة من الأغراض والأثاث، تفردت أنا واعتليت أعلى نقطة فوق الحمولة، أود من هذا المكان أن أتمكن من إلقاء نظرة أخيرة إلى أرض حملت كل ذكرياتي.
أبو صلاح يعطي وصاياه قبل الانطلاق:

  • طريقنا طويل.. ستمضون ليلتكم كلها مسافرين.. نحن في فصل الخريف والجو يكون باردا في الليل.. جهزوا بعض الأغطية والبطانيات، ستحتاجون إليها في الليل.
    انطلق الزمور من جديد مع حركة متثاقلة للشاحنة، لوحت الدموع مودعات، نبح الكلب حزينا، ما زالت الحمائم في السماء، اعتلت الشاحنة الطريق، بدت الآن أكثر نشاطاً وسرعة، بيوت القرية تصغر شيئا فشيئا، هكذا حتى تلاشت تماما، وغابت عن الأعين الدامعة.
    زمنٌ جديدٌ يبدأ الآن، الشمس البرتقالية تستعد للمغيب خلف الجبل، هبت نسائم باردة، لبست سترتي، وتَقَنَّعت بكوفية كانت إلى جانبي، لففت جسدي ببطانية تنفيذا لوصايا أبي صلاح، نظرت إلى صمت أخواتي، أشعر بقسوة الحزن والألم واليأس الذي بقلوبهنَّ، أطبقت جفوني هربا مما أنا فيه.
    سألت نفسي وفتحت صندوق ذاكرتي:
    لماذا قرر الوالد الرحيل فجأة؟
    سؤال يستحوذ على تفكيري منذ الإعلان عن السفر، يبدو أنني أقترب من معرفة الإجابة.
    سمعت غير مرة أحدهم وهو يسأل أبي هذا السؤال:
  • لماذا تريدون الرحيل؟
    يجيب أبو سالم دائما:
  • نبحث عن مستقبل أفضل.
    أعرف أنه لم يكن يقصد ما يقول، هو يخفي سرا مؤلما في صدره، ولا يريد الإفصاح، إنه أبو سالم العصامي الكتوم، معلم المدرسة الذي يتسم بالجدية والحزم، أفهم شخصيته، وأحس بعذاباته، هو لا ينشد المستقبل بقدر ما يبغي الهروب من الماضي، أو بالأحرى الهروب من القدر..
    تتزاحم الأحداث والأفكار في ذهني، أتفحصها، أحاول تحليل صورتها المشوشة..
    منذ أشهر قليلة جاء أحدهم طالبا يد (سعاد).
  • سعاد تأتي بعد نسرين بترتيب الأعمار.. هي تكبرني بسنتين، منذ أيام بلغت العشرين من عمرها، في ذلك اليوم كانت أمي قلقة ومتوترة…
    أسمع أن الأمهات يفرحن حين يتقدم خاطب لبناتهن… فكيف لأمي وهي الأم لسبع بنات وصبيين.. ألا تفرح؟!
    لكن أم السبع بنات ليست فرحة.. إنها مرتبكة وفي عينيها حزن وحيرة..
    حالها في ذلك اليوم يشبه حالها في أيام زواج نسرين.
    آه… نسرين!
    جرى زواجها بسهولة …
    لم يحتج الأمر لأكثر من جلسة سرية للأم مع ابنتها لتأتي الموافقة المباشرة، لا بدّ أن الوالدة قالت لها شيئا أقوى من قدرتها على الرفض..
    سألت نفسي غير مرة: ما سر تلك الموافقة السهلة لفتاة متعلمة وفي غاية الجمال على الزواج بشاب أعرج وقصير القامة ويعمل بائعا متجولا؟!
    السؤال ذاته سألته يوما لأمي، فاجأني ردها العنيف، أظهرت لي اضطرابا شديدا.. بل صرخت في وجهي على غير عادتها طالبة مني الكفَّ عن إثارة هذا الموضوع مجددا.
    قالت بغضب: إياك ثم إياك أن تعود إلى هذه السيرة مجددا!
    أمرُ سعاد كان أكثر سوءا من أمرِ نسرين، فبعد تلك الجلسة التفاوضية، والتي تشبه الجلسة مع نسرين، وافقت سعاد.. لكن لم تجرِ الريح كما اشتهت سفينة الأم، جاء الردُّ صاعقا من أهل العريس، يقول إنهم غيروا رأيهم، ولم يعودوا مهتمين بالأمر.
    حينها بدأ والدي يتهيأُ للرحيل، باع الجزء الأكبر من الأرض، وصار يتفاوض على بيع المنزل، وكلما سألناه: لما تفعل هذا؟
    يأتي جوابه المعتاد – (من أجل مستقبل أفضل).
    أتذكر أيام خطبة سعاد جيدا، وأتذكر كيف انتهى موضوعها..
    جاءت أم حسن، التي بدا أنها كانت تمثل دور الوسيط بين أهلي وأهل ذلك الشاب.
    لم تدخل البيت، نادت أم سالم، ووقفن يتهامسن بجانب النافذة التي كنت أقرأ بقربها، وجدت نفسي أسترق السمع لحديثهن.
    قالت أم حسن: أنتِ يا أم سالم غالية عندي.. فعلت ما بوسعي.. لكن هناك من تدخل وأشار إلى مرضِ خالِ سعاد.. قالوا: إنه مرض وراثي.
    جسدي يرتعش كلما تذكرت حديثها، ومنظر والدتي المثير للشفقة وهي تستمع لكلماتها، والتي وقعن عليها وقع السوط على الجسد العاري.
    أحب خالي، ولم أتحرّج يوما من بشرته، والتي تَرَقطَ جزءٌ كبير منها، أيعقل أننا ندفع ثمن لون بشرة يد خالي المرقطة؟!!
    إنه القدر، والتَفَكّر به يبعث الحيرة فعلا.
    ليلةٌ طويلةٌ، مستمرٌ شخير سيارة أبي صلاح، ظلام سميك تمزّقه أضواء السيارات التي تمر من حولنا، يغلبني النوم مرات عديدة، أصحو فأجد أن لا شيء قد تغير.
    وأخيرا اصطبغت السماء بلون فضي، لون برتقالي ظهر من تلك الجهة، لا بدّ أن الشرق هناك، ها أنا أجد الجهات بعد إضاعتها، ساعة وانسحبَ ظلام الليل ليحلَّ محله نور النهار.
  • نهار وجدنا أنفسنا في صباحه وسط مدينة كبيرة، وزحام البشر يحيط بنا من كل جهة.
    الآن فهمت ما تريد يا أبا سالم.
    مجتمعٌ جديدٌ، لا حدود له، يتيهُ فيه الفردُ، لا ميزة هنا لك، لا أحد يهتم بماضيك، ولا يوجد من يبحث بجذورك، دخلنا بيتنا الجديد، لم يأت أحد من الجيران ليساعدنا بإنزال أغراضنا، احتجت لأيامٍ حتى تعرفت إلى شاب بجوارنا.
    سألني: لما تركتم بلادكم؟
    أجبته: من أجل مستقبل أفضل.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى