مجلة سيوانمقالات

الملليون نظرة عامة وشاملة

رستم حسن – باحث كردي – سوريا

طبيعة الاتحاد المللي:
تذكر بعض المصادر إلى أن الموطن الأصلي للمللي كان حول مدينة وان، إلا أنه في حوالي القرن السادس عشر هاجرت هذه العشيرة إلى جنوب غرب كردستان نتيجة لبعض المشاكل هناك.
ولا تشير المصادر المتداولة إلى تاريخ تشكيل اتحاد عشائر المللي، وأهم العشائر المنضوية تحت راية هذا الاتحاد في القرن التاسع عشر، إلا أن مارك سايكس الذي زار الكرد عند إبراهيم باشا في بداية القرن العشرين، ودرس حياتهم الاجتماعية، ذكر أن عشيرة المللي كانت تتكون من ثلاثين أسرة فقط، وتمكنت هذه العشيرة من تكوين اتحاد عشائري سمي في التاريخ الحديث باتحاد عشائر المللي، وضم الاتحاد القبلي المللي العديد من القبائل الكردية والعربية، كما استقطب عددا من القبائل التركمانية القاطنة داخل وبجوار جغرافية الاتحاد المللي، هذا، وكان الاتحاد القبلي اتحادا دفاعيا واجتماعيا في الأساس، ومن جهة أخرى اتسع الحلف لمذاهب وأديان متنوعة؛ فلقد كانت الغالبية من المسلمين السنة، إضافة إلى الإيزيدين والمسيحيين، ولم يكن تأثير الدين قويا على نواة الحلف المللي، ولا على زعاماته، مما اتصف الحلف بالتسامح الديني والمذهبي النسبي طوال تاريخه، وقد يعود ذلك أساسا إلى أن المللية كانوا أنصاف رحل، ولم يكونوا مرتبطين بوشائج قوية بالدين الإسلامي، علماً أن قادة الملان قد بسطوا سلطتهم على العديد من القبائل والعائلات الحضرية الريفية.
فالاتحاد القبلي ضم الرحل “Kocer”، والفلاحين المستقرين “kurmanc”. وقد حدد مارك سايكس في مراحل متأخرة عدد القبائل المللية الكردية منها بأربع وأربعين قبيلة، إضافة إلى عدد من القبائل العربية أنصاف الرحل، والمستقرين على ضفاف نهر الفرات والخابور والبليخ، وظل الحلف القبلي المللي فعّالا حتى أواسط القرن العشرين، كما حدد العلامة أحمد وصفي زكريا عدد القبائل المنضوية ضمن إطار الحلف المللي أواسط القرن العشرين بخمسين قبيلة كردية وعربية، وفي الواقع لا يمكن حصر وتحديد عدد القبائل المنضوية تحت لواء الحلف بدقة؛ لأن عدد القبائل كان يتغير من مرحلة إلى أخرى، يزداد عددها وينقص، وسمي نواة هذا الحلف بـ (bemirî – بـمري)، وهم سبعة أفخاذ:
1-الباشوات: أي أسرة العبدي.
2- خضركان: (يسمون ميلان، وملانه كبير)؛ لأن أباهم هو العم الأكبر لكلش عبدي، وكان وصيا عليه، وقطن مع بعض أفراده نواحي عامودا، ويسمّون الآن بمللية الخضر.
3- کوران.
4- کم نقش.
5- جمكان.
6- هاجکان.
7- جبگان.

أماكن الانتشار
ينتشر الملليون في شمال وغرب كردستان، يحدها قوس يمتد من بلدة الجزيرة ونهر الخابور إلى بينغول صاعداً، وإلى بلدة سفريك نازلاً، ومن هناك إلى بيره جيك وأورفا غرباً، وإلى الحسنجة وجبل سنجار جنوبا، ومن هناك إلى ماردين والجزيرة شرقا، فتقع مواطنها في الجنوب من جبال طوروس الشرقية، وعلى نهر دجلة نحو الشرق والغرب، وتقع بلدة ويران شهر – مركز رؤساء هذه الطوائف – في وسط الخط بين ماردين وأورفا.
وهكذا يجعل موقعهم هذا من تاريخ المللي نموذجاً حياً لتاريخ الطوائف الشرقية العثمانية، وصورة معبرة لكل العلاقات القائمة بين الدولة ورعاياها، وطراز الحكم ومستواه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والروحي.

المللية في وجدان الكرد
يطلق على أجداد وأحفاد الأمير إبراهيم باشا لقب الباشوات، وذلك لكثرة تتالي الباشوات في هذه العائلة قبل إبراهيم باشا، وخلال عدة قرون متتالية، حيث لم يعرف التاريخ الكردي عائلة استمرت في توليها الزعامة على مناطق واسعة من كردستان، وعلى امتداد مئات السنين، وفي مختلف الظروف كهذه العائلة، فضلا عن ذلك فإن عائلة الباشوات لم تهادن يوماً القوى التي حاولت السيطرة على كردستان، فقد انتفضوا تارة ضد الفرس، وتارة ضد الأتراك، وكان الهدف الأول هو محاولة الاستقلال عنهما، وفي بعض الأحيان نجحوا في ذلك، ولفترات طويلة، وفي بعض الأحيان لم ينجحوا، وكان مصيرهم آنذاك القتل والاعتقال والتشريد.
وكثيراً ما تصف المصادر زعماء المللي، وإبراهيم باشا على أنهم كانوا لصوصاً وقطّاع طرق، وسافكي دماء، إلا أنه يظهر بأن العديد من هذه المصادر قد تحاملت على الملليين، وكانت ظروف المنطقة، والظرف الزماني تفرض عليهم القيام بذلك للحفاظ على سلطتها في المنطقة، وفي الوقت نفسة كانت تلك الأعمال صفة اعتيادية يتحلى بها جميع العشائر، بل كانت مفخرة للعشائر كعشيرة المللي آنذاك.
وبسبب وضعهم هذا فإن الكرد كانوا يبجّلونهم تبجيلا كبيراً، وقد كونوا من حولهم وضعا أسطورياً مهيباً، وتناولهم الفلكلور الشعبي الكردي بمختلف أشكاله وصوره بالأناشيد والأغاني والمرائي التي تؤرّخ لبطولات بعض الشخصيات وكرمهم، وكذلك لبعض الأزمات التي حلّت عليهم، كما إن قسماً كبيراً من الكرد كانوا يعتبرونهم (باني كرد)؛ أي أبو الكرد، وكذلك (ديركي كردستان)؛ أي عامود كردستان.

والخلاصة: إن عائلة الباشوات كانت سبّاقة في إعلان الانتفاضات والثورات ضد الفرس والأتراك منذ أكثر من خمسة قرون، وقد عدد أمين زكي في كتابه (تاريخ الكرد وكردستان) خمس ثورات كردية ضد الأجانب، كانت اثنتان من هذه الثورات من نصيب الباشوات، هما ثورة تيمور باشا، وثورة إبراهيم باشا.
وقد اعتبر بيير روندو بأن الاتحاد القبلي المللي هو أحد الحالات والمحاولات الكبرى لتوحيد الكرد على أساس قومي؛ على الرغم من بداياتها القبلية، وبخاصة في مطلع القرن العشرين فيقول:
“هذه المحاولة التوحيدية فريدة من نوعها ومثيرة من جوانب عديدة… لأنها ظهرت في أقصى منطقة من كردستان بين ديار بكر وحلب. خارج المراكز الاعتيادية للحركة الكردية. أضف إلى ذلك قيام قبيلة مللي بها، وهي نفسها عبارة عن اتحاد عشائر ومزيج لعناصر كثيرة التباين، وحيث الكثير منها ليس من أصل كردي بل عربي”.
لقد كانت نزعة الاستقلال والتوحيد هذه ذات محتوى قبلي في الأساس، ثم تطورت وارتقت نحو صيغة قومية إثنية مبسطة لاحقا. لقد كانت نزعة الاستقلال لدى المللية بزعامة آل كلش عبدي تنبع من مصالح الاتحاد المللي، وأخذت نسغها من الشعور القومي، فالتمايز عن الأتراك، والرغبة في امتلاك السلطة والسيطرة على طرق التجارة والأراضي والمراعي الشاسعة، وتنمية الثروة الحيوانية، والتأسيس لأعمال المهن اليدوية والحرف.
وربما لهذه الأسباب الاقتصادية والمتطلبات الاجتماعية ظلت القيادة القبلية المللية متسامحة دينيا، وحافظت على المسيحيين أيام المحن والفتن والفوضى، فلم تتأثر بالأفكار الداعية لتصفية واضطهاد المسيحيين. هذا ولم تلتقِ نزعة الاستقلال المللية مع الاتجاه القومي التحرري الكردي إلا في فترة متأخرة.

نبذة تاريخية عن باشوات المللية
مر سابقاً بأن الموطن الأصلي للملي كان حول مدينة وان الكردية على الحدود العثمانية الإيرانية، وبرز اسم زعيم قوي منهم هو (عمر آغا)، الذي ما لبث أن قتل في إحدى المعارك بين العشائر هناك، ونتيجة لهذه الحوادث ترك المللي موطنهم وسكنوا في أقصى جنوب غرب كردستان.
وهذه نبذة حول الباشوات الذين توالوا على قيادة المللين:

كلش عبدي:
بعد تشتت شمل الملليين لجأ كلش عبدي إلى الجبال المحيطة بأورفا، وجمع حوله عدداً كبيراً من الكرد، ثم بدأ بالتعرّض للقوافل الحكومية المتجهة من أورفا إلى الشرق، وكذلك القوافل القادمة إليها، وبعد أن استفحل أمره، وذاع صيته بين الناس، حاولت الحكومة العثمانية القضاء عليه ولكن دون جدوى، وبسرعة امتدت منطقة نفوذه لتشمل مناطق واسعة تمتد بين ديار بكر وأورفا وسويراك، وفي أحد الأيام أسر رجاله مفتشاً حكومياً مع زوجته كان قادماً من الأستانة لتفقد أحوال المنطقة، وعندما قابله كلش عبدي، أعجب به المفتش كثيراً وقال له: (إن والي أورفا قد صورك لي كقاطع طريق ومتوحش جبلي ولكن حسن استقبالك ومعاملتك الجيدة لي دلت على عكس ذلك).
وبعد أن فكّ كلش عبدي أسره، وعاد المفتش إلى الأستانة أبلغ الباب العالي بأن الحاكم الفعلي للمنطقة هو كلش عبدي، وليس والي أورفا المعين من قبل السلطة العثمانية، وأنه من الأفضل للدولة أن تكسب وده وترضيه لأن ذلك سيساعد على استتباب الأمن في المنطقة، حيث إن الدولة عاجزة عن فرض إرادتها على كلش عبدي بالقوة العسكرية، وبالفعل أصدرت السلطة العثمانية أمراً عيّنت بموجبه كلش عبدي والياً على أورفا، ومنحته لقب (الباشوية)، وخلعت والي أورفا السابق، وبذلك استطاع كلش عبدي أن يفرض نفسه على السلطة العثمانية، وأخذ يعمل من خلال مركزه الجديد على توطيد نفوذه ونفوذ عائلته وأتباعه في المنطقة، ويعد العدة للتمكن من التحرر من الأتراك وسيطرتهم.

بشار باشا:
هو حفيد كلش باشا حاول السير على خطى جده ومتابعة مد نفوذه وسلطته، ونجح في ذلك، فأصبحت أقسام واسعة من الأناضول تحت سيطرته، اشتهر بالحزم والعدل، ويعتبر أقوى أمير ظهر في عائلة الباشوات وأكثرهم طموحا، خاض معارك كثيرة ضد الأتراك، وانتصر في معظمها حيث ألحق خسائر فادحة بهم، وحرر مناطق واسعة، وسيطر على مناطق واسعة يسكنها الأتراك، ولكن، وبسبب عوامل متعددة، ولجوء السلطة العثمانية إلى الحيلة والخداع تمكنت من إلقاء القبض عليه في مدينة قونية، وأعدم هناك على (الخازوق) ليكون عبرة لغيره، ومن الجدير بالذكر أن تنفيذ الإعدام بهذا الأسلوب كان يتم فقط للأشخاص الذين سببوا ضيقا وإزعاجا شديدين للسلطة العثمانية.

تيمور باشا:
لقب بـ (زنكي زيرين) أي ذي الكعب الذهبي، قضى الشطر الأول من حياته في استانبول، وتقلد هناك مناصب عدة، إلا أنه ترك استانبول لحدوث بعض المشاكل، وتوجه إلى كرد المللي، الذين كانوا أحوج ما يكونون إليه؛ لأنه قائد قوي يجمعهم ويبعد الظلم عنهم، فسرعان ما تزعمهم وتمكن من بسط سيطرته على شمال الجزيرة الفراتية، وتوسع هناك كثيراً حتى هدد آمد نفسها، لتشمل منطقة نفوذه جميع أنحاء كردستان الشمالية كأمير مطلق الصلاحية، وشملت منطقة نفوذه أيضاً جنوب سوريا، قاد حملة عسكرية مؤلفة من الكرد ضد نابليون بونابرت عندما حاصر مدينة عكا بقيادة واليها أحمد باشا الجزار (الكردي الأصل)، وبعد الحملة عاد إلى منطقة سويراك قبل ثورته على الأتراك.
وبعد أن أعد جيشه الإعداد المناسب أعلن الثورة على الأتراك، وطالب باستقلال كافة المناطق الكردية عن الدولة العثمانية، واستمرت هذه الثورة سبع سنوات تكبدت فيها السلطات العثمانية خسائر فادحة، مما اضطرت معها إلى الاعتراف باستقلاله، واقتطعته كافة المناطق التي كانت تحت سيطرته، ومنحته لقب أمير أمراء كردستان، وقلدته الوشاح الممتاز.
قبضت عليه الدولة العثمانية، ومن ثم قررت العفو عنه، وبالفعل أصدر الباب العالي فرماناً يقضي بالعفو عن تيمور باشا، كما أصدرت فرمانا آخر قضى بتسمية تيمور باشا والياً على أورفا وملاطيا سنة (1800م).

أيوب بك:
في عهد السلطان محمود الثاني (1808-1839م) لم يكن للسلطة العثمانية أي نفوذ فعلي على جنوب الإمبراطورية؛ بل كان يحكم هذه البلاد ثلاثة أمراء، اثنان منهم كرد، والثالث عربي وهم: أ. الأمير أيوب بك، وكان يحكم المنطقة الممتدة بين بحيرة بنغول وجبل سنجار.
ب. محمد باشا راوندوزي سيد البلدان الممتدة بين الموصل والحدود الشرقية للإمبراطورية.
ج. أما الشيخ صفوك (شيخ شمر) فكان يحكم المراعي الجنوبية.
وبعد أن استفحل أمر هؤلاء الثلاثة، جهزت السلطة العثمانية حملة عسكرية كبيرة ضدهم بقيادة رشيد باشا، وبعد حروب طويلة استطاع رشيد باشا إلقاء القبض على محمد راوندوزي ثم قتله، كما استطاع إلقاء القبض على كل من أيوب بك والشيخ صفوك حيث نقلا إلى آمد، وسجنا هناك، وبقيا في السجن حتى توفيا فيه.

تيماوي بك:
أشعل تيماوي بك ثورة جديدة ضد العثمانيين في محاولة أخرى للاستقلال عنهم، تحالف تيماوى بك مع إبراهيم باشا المصري ضد السلطنة العثمانية، هاجم عمر باشا والي آمد على ماردين، وقتل تيماوي باشا في إحدى المعارك.
إبراهيم باشا:


ولد ابراهيم باشا عام (1845) وتسلم زعامة الملليين في عام 1877، فأخذ كأسلافه يتوسع في المنطقة في بداية عهده خاصة في المناطق الواقعة بين ماردين وآمد، حصل إبراهيم على لقب “الباشا”، وكان له عدة ألقاب منها: أمير أمراء كردستان (مير ميران)، و(سلطان البحر) و(ابن السلطان عبد الحميد)، وكان العرب يسمونه (الحوت) و(أخو نورة) و(خيال الشعلة)، أما كرد الشام فكانوا يدعونه (برهو باشا).
وتعاظمت قوة إبراهيم باشا يوماً بعد يوم فقد امتلك مئات الألوف من رؤوس الأغنام، وعشرات الآلاف من الخيول، وآلاف الجمال، وخمسة آلاف قطعة سلاح. وامتدت سلطته على مساحة 400 قرية، وبلغ عدد أفراد العشائر الخاضعين له عشرة آلاف عائلة، وتم تقديم الأتاوات ليس من قبل كرد عشيرة ملي وحدهم بل من قبل الكثير من القبائل المجاورة التي ضمن هو حمايتها، والدفاع عنها من العشائر الأخرى ومن السلطة العثمانية.

نهايته:
حدث في يوم 23تموز 1908 أن قام الاتحاديون بانقلاب ضد السلطان عبد الحميد الثاني، وأجبروه على الحكم وفق دستور على غرار الدول الأوربية.
هاجمت قوات من الجيش العثماني مركز حكمه ويران شهر فقرر عدم دخولها، وأرسل خبرا لأولاده بالزحف بقواتهم الحميدية وأسلحتهم للانضمام إليه خارج ويران شهر. وبعد معارك كبيرة قرب ويران شهر انسحبت قوات الحكومة بعد أن تركت وراءها 300 قتيل وجريح.
ولكن ما لبث أن وصلت إمدادات إلى القوات الحكومية من عدة ولايات قريبة، اضطر على إثرها إبراهيم باشا إلى الانسحاب، والتوجه إلى الجبال المحيطة بمنطقة سنجار للتحصن فيها، أملا في الحصول على دعم حلفائه من الإيزديين، لكنه اضطر فيما بعد أن يعود باتجاه أورفا، واصطدمت قواته في منطقة قريبة بالقوات الحكومية التي كانت تلاحقه. وتوفي إبراهيم باشا في هذه المنطقة، ووفق أغلب الروايات كانت وفاته نتيجة إصابته بالديزانتري، ووفق أخرى توفي إثر نوبة قلبية، وهناك من يقول إنه قتل في المعركة أو سمم في ظروف غامضة. وبعد موته استسلمت أغلب قواته من الحميدية إلى القوات الحكومية.
وهكذا ونتيجة لخيبة الأمل التي أصابت الباشوات من جراء عدم تنفيذ الفرنسيين لاتفاقهم السابق؛ فضل الباشوات العودة إلى عاصمتهم ويران شهر على البقاء تحت نفوذ الفرنسيين، وقد تم ذلك في عام 1922 نتيجة الاتفاقية التي عقدت بين الأتراك والفرنسيين وسميت الاتفاقية بـ (عفو بيروت – أنقرة)، وبموجبها أصدرت الدولة التركية عفواً عن الباشوات، وسمحت لهم بالعودة إلى ويران شهر، وذلك بعد أن تم تسليم كافة الأسلحة التي بحوزة الباشوات إلى السلطات الفرنسية عند نقطة الحدود السورية – التركية في تل أبيض، وهنا ضعفت قوة الباشوات كثيرا؛ نتيجة لتخليهم عن أسلحتهم، وتخلي حلفائهم عنهم؛ بما في ذلك أعداد كبيرة من عشائرهم؛ حيث فضلوا البقاء في سوريا، وحتى الذين عادوا إلى تركيا انضم قسم كبير منهم إلى أبناء عمهم من غير أبناء إبراهيم باشا، هؤلاء الموالون أصلا للسلطة التركية، وفي هذه المرة بقي الباشوات في ويران شهر حتى عام (1926م)، وفي هذه الفترة توترت العلاقات بين سائر الكرد من جهة، والفرنسيين من جهة أخرى، وذلك بسبب وقوف الكرد في سوريا بوجه السياسة الفرنسية “الاستعمارية”، ولئن ساد هدوء نسبي على الحدود الجنوبية الشرقية لكردستان التركية في صيف عام 1923، فقد ازداد التوتر بالمقابل في حدودها الجنوبية من سوريا التي كانت محتلة من قبل الفرنسيين، وكان سببه اضطرابات العشائر الكردية الدائمة، ويعود ظهور المسألة الكردية في سوريا إلى هذه الفترة الزمنية التي أصبحت تحت حكم الانتداب الفرنسي، فقد تبين أن عدداً من المناطق التي يسكنها الأكراد بصورة كثيفة (في مقاطعات الجزيرة وجبل الكرد وعين العرب “كوباني” الواقعة شمال البلاد) قد انضمت إلى الأراضي السورية، وأدت الحركة القومية للكرد فيها إلى ظهور مسألة كردية مستقلة نسبياً في سوريا، ويكمن في أساسها كفاح الكرد السوريين ضد المحتلين الفرنسيين، كما شارك الكرد في عدد كبير من الحركات التي قادها الشعب السوري ضد الاستعمار.
وكانت الحدود الدولية الجديدة التي قررتها الحكومة الفرنسية والكمالية في أنقرة في تشرين الأول / أكتوبر 1921 قد قسّمت هذه المنطقة بشكل مباشر، تاركةً جزءا كبيرا من أراضي أجداد المللية داخل أراضي الانتداب في سوريا.

العلاقات المللية – الانكليزية والفرنسية في القرن العشرين:
ذكر ستيفان وينتر في دراسة له أن دبلوماسيين بريطانيين في عام 1919 حصلوا على موافقة المللية لإمارة كردية – أرمنية برعاية الانتداب البريطاني؛ وحاول الفرنسيون أيضا جذبهم إليهم؛ فتم تصويرهم على أنهم مؤيدون مبكرون ومتحمسون للحكم الفرنسي في سوريا، وكان محمود آغا المللي أحد الموقعين على تشكيل الإمارة الكردية – الأرمنية التي اقترحها البريطانيون، ولكن، وعلى الأرجح اتفق الفرنسيون مع الاتحاديين بعد انتهاء الحرب الأولى، وحدثت ترتيبات محددة، فأبرمت صفقات سياسية كبرى على صعيد المنطقة والعالم، وتخلت بموجبها كل من فرنسا وانكلترا عن أبناء إبراهيم باشا. وبالتالي لم يعد يلزمهم دعم وفعالية الكرد في المنطقة.
ورغم تلك الوعود الآنية بتشكيل تلك الإمارة المزعومة فقد تجنب الملّليون الاتصال برابطة خويبون، وكذلك تجنبوا الاتصال بالطاشناق، على الرغم من علاقاتهم بالمجتمع الأرمني، ولم يقدموا سوى دعم رمزي لثورة آغري داغ، رغم أن محمد آغا، كان أحد المهندسين الرئيسين للثورة، وتم تعيينه قائداً للعمليات في المنطقة الرابعة (حول ويران شهر)، لكنه فشل، على الرغم من الوعود والتأكيدات المتكررة، في التحرك شرقاً لمساعدة قوات المتمردين الرئيسة خلال فصل الصيف الحاسم لعام 1930.
وفي نفس الوقت، كان رجال القبائل من المللية في حي الأكراد يشاركون بنشاط في الأنشطة المعادية للفرنسيين هناك. وبقدر ما كان الخيار العسكري لإعادة خلاصة الأراضي الكردية داخل تركيا قد استنفد بحلول عام 1930، فقد تجنب الملليون عموما الاشتراك في الأنشطة الثقافية والسياسية التي يقودها البدرخانيون بتوجيهيهم الدولي، وبدلاً من ذلك ركزوا على إعادة بناء موقعهم التقليدي داخل سوريا، في وقت كان الجزء الأكبر من قبيلة المللية قد استقرّ في نهاية المطاف على الجانب السوري من الحدود في رأس العين (سرى كانيه)، ومن المفارقات أن إعادة تأسيس مدينة الرقة من قبل السلطات الفرنسية عززت من فرص المللية للظهور مجدداً داخل المجتمع السوري؛ نظراً لوجودها الطويل في المنطقة، وخاصةً ارتباطها الوثيق بالعديد من المجموعات البدوية المحلية البارزة، كما أنهم تواجدوا في بلدة القامشلي، التي بناها الفرنسيون في عام 1926، حيث استولوا فيها على أراضٍ زراعية يملكها الملليون.

أوضاع المللية في سوريا
بعد انسحاب أبناء إبراهيم باشا إلى رأس العين اعتمد أبناء إبراهيم باشا بعد ذلك على الجناح العربي في الحلف المللي، وتبدلت علاقاتهم الاجتماعية والسياسية، وكذلك تحالفاتهم عاما بعد آخر، كما تزاوجوا من عرب المنطقة، ويقول المؤرخ أحمد وصفي زكريا بهذا الخصوص:
“ولكن بعد وفاة الباشا المذكور، واحتلال الفرنسيين، وتقسيم المناطق بين العشائر، خفت العداوة بين القبائل بالتدريج إلى أن زالت بتاتا، وانقلبت إلى صداقة ومصاهرة قويتين، بزواج الشيخ ميزر عبد المحسن رئيس شمر الزور بابنة خليل بك بن إبراهيم باشا وحاربت المللية عنزة الجزيرة أيضا، ونعني بها عشيرة الفدعان، وكانت الوقائع بينها سجالا، وهاجموا مرة شاشان رأس العين، كما أن أبناء إبراهيم باشا مشوا عام 1921 مع الحملة الفرنسية التي يقودها الزعيم دبيوفر في هجومها على قرى خشام والبصيرة، وضربها عشيرتي العنابزة والبكير من العقيدات، وقد انقسمت العشيرة المللية بعد تحديد الحدود إلى قسمين؛ فبعضهم كان داخل الحدود التركية برئاسة عبد الرحمن بك، وبعضهم داخل الحدود الشامية برئاسة محمود بك… وكان محمود بك يقطن في قصره الذي شيده في ويران شهر، وبعد أن انتقل إلى قضاء رأس العين، ظل يتبدى في مضربه العظيم ذي العواميد الستة عشر، إلى أن شاخ وهرم، وتوفي في صيف عام 1945م… ولما توفي محمود بك استقرت الرئاسة إلى خليل بك، إلا أن خليل بك قد شغل عن العشيرة بالنيابة في البرلمان السوري، فصار يعاونه في إدارة العشيرة الباقية في قضاء رأس العين ابنه محمد علي بك، وهو شاب ذكي همام، متعلم كان يجيد اللغة الفرنسية كإجادته التركية فضلا عن العربية”.
هذا، ومع ذلك ظل موقف أبناء إبراهيم باشا من المسألة الكردية في سوريا غير متبلور؛ خاصة بعد تثبيت الحدود بين تركيا ودولة الانتداب الفرنسية، فقد انحاز كل من محمود وخليل بك بشكل صريح إلى الاتجاه الوطني السوري، وابتعدا عن الحركة القومية الكردية ذات النزعة الاستقلالية في الجزيرة السورية، واتضح ذلك في أحداث عام 1939، إذ كانا يميلان إلى تثبيت سلطة دمشق المركزية، على حساب توسيع صلاحيات السلطة المحلية، والتقوا بذلك مع موقف القبائل العربية، في حين كان رأي أغلب القبائل الكردية والعائلات والطوائف المسيحية يميل بل يدعو إلى سلطة محلية تحت وصاية فرنسية.
هذا ويعتبر كل من محمود وخليل بك من مؤسسي البرلمان السوري، وقد حصل خليل بك على نوط الشرف السوري تقديرا لخدماته الوطنية، إلا أن الأحداث والتطورات السياسية في العقود الأخيرة أظهرت بأن أحفاد إبراهيم باشا قد تم إقصاؤهم عن الحياة السياسية، وتم الاستيلاء على مئات الألوف من الدونمات من أراضيهم نتيجة الإصلاح الزراعي. وتم اضطهادهم قوميا في السنوات الأخيرة على أساس أنهم أيضا من الزعماء الكرد، لدرجة أن قتل أحد أبنائهم في مدينة رأس العين في الأحداث الأخيرة عام 2004.

 

المصادر: 

 – مير ميراني كوردستان، (إبراهيم باشا المللي) لـ محمد علي بك إبراهيم باشا، دراسة وتحقيق: د. عبد الفتاح علي البوتاني – علي صالح الميراني، من منشورات الأكاديمية الكردية.

– الآثار الكاملة، الدكتور أحمد عثمان أبو بكر، ج١ (أكراد المللي وإبراهيم باشا)، تحقيق: د. آزاد عبيد صالح.

– الدور السياسي لعائلة إبراهيم باشا، آزاد علي، الطبعة الأولى، منشورات مركز آشتي للبحوث والدراسات.

– دراسة بعنوان: النهضة الأخرى: البدرخانيون، والملليون، والجذور القَبليّة للقومية الكردية في سوريا*

– ستيفان وينتر / STEFAN WINTER، ترجمة: محمد شمدين.

– مجلة الحوار، العدد 74، عام 2020.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى