مجلة سيوانمقالات

الرّواية بين الأمس واليوم

نارين عمر – كاتبة – سوريا

تُعتَبر الرّواية من أهمّ الفنون الأدبية التي كان يتجنّب معظم الكتّاب الولوج إلى عالمها خلال القرن العشرين على الرّغم من امتلاكهم الإمكانيات الجيدة لكتابتها، لأنّهم كانوا يرونها الجنس الأدبيّ الذي يُطلق عليه السّهل الممتنع أوّلاً، وثانياً لأنّهم كانوا على علم ودراية بصعوبة الحبو نحو عالمها ما لم يكونوا مدركين لأصول ومقوّمات ذلك، لذلك كنّا نقرأ القليل من الرّوايات، ولكنّنا نستمتع بها؛ لأنّها كانت تُكتب بإتقان مع حذر وحيطة شديدين، وكان الكاتب يتمّهل جيّداً في إصدارها، فيكتبها ثمّ يراجعها، ويعدّل فيها، وكانت تطول مدّة تمهّله هذه سنة أو سنتين أو أكثر ليقدّم للقرّاء عملاّ روائيّاً حاملاً نسبة كبيرة من عناصر كتابة الرّواية ومقوّماتها وشروطها. لذلك نجد الرّوائي نجيب محفوظ:
“قد عشق الأدب، وكرّس له حياته ولذلك كان يخصّص 6 ساعات يوميّاً له: ثلاث ساعات من أجل الكتابة ومثلها للقراءة….”1 أمّا الكاتب ابراهيم عبد المجيد فيقول: “استغرقت كتابة روايتي لا أحد ينام في الاسكندرية ست سنوات. كلّ رواياتي كتبتها ثلاث مرّات أو أكثر”.2
بكلّ تأكيد نستشف من تصرّفهم هذا احتراماً للقارئ وللذّوق الأدبيّ والفنّي العام.
قبل الخوض في عمق موضوعنا لا بأس من أن نعرّف الرّواية التي اكتملت عوامل نشأتها وتكوينها في العصر الحديث، وهي بمعناها الشّامل تعني ذلك الجنس الأدبيّ الفنّي الذي يتخذ من اللغة النّثرية منهجاً له؛ معتمداً على سرد قصص وحكايات طويلة أو قصيرة مستوحاة من الواقع المعاش، أو الأمس القريب أو البعيد، ومن حوادث اجتماعية وتاريخيّة وسياسيّة وغيرها من جوانب الحياة من خلال شخصيات متعدّدة رئيسة وثانويّة؛ تجسّد الأحداث، وتسيّرها نحو سبل الخير والشرّ، أو الحقّ والباطل، ينقلها ويدوّنها ويكتبها شخص يسمّى الرّاوي أو كاتب الرّواية، وهذا ما يميّزها عن القصّة القصيرة والأقصوصة وحتى القصيدة الشّعريّة، لذلك قيل فيها:
“الرّواية تختلف عن القصص والقصائد في جوانب رئيسية، أهمها أنّ الرّواية عبارة عن كتاب، في حين أنّه لا يمكن اعتبار جميع الكتب روايات”.3 إذا حاولنا تسليط الضّوء على عالم الرّواية خلال السّنوات الأخيرة التي عشناها نجد أنّ سبل التّعامل الأدبيّ معها قد اختلف تماماً، بل وانقلب رأساً على عقب، حيث نجد أنّ عدداً كبيراً ممّن حاول ويحاول ولوج عالم الأدب يتوجّه نحو كتابة الرّواية على الفور، أو بعد مرور فترة قصيرة على نشره لخواطر أو أقصوصات نثريّة أو شعريّة. إذا حاولنا أن نجري مقارنة بين كاتب الأمس وكاتب اليوم من حيث نظرته للأجناس الأدبيّة عموماً والرّواية تحديداً وعمق إدراكه لمقوّمات وشروط البدء بكتابة الرّواية سنجد أنّ كاتب الأمس كان وما يزال يرى أنّ الرّواية كجنس أو فنّ أدبي تتطلّب المزيد من الجهد والوقت والتّفكير، وقبل كلّ شيء تتطلّب موجبات الغور في مكامنها المعلومة والمجهولة. أوّل شرط يضعه أمام نفسه هو ضرورة امتلاكه القدرة الكافية على كتابتها، ومفاتيح الولوج إلى عالمها بثقة وأريحيّة، وأوّل مفتاح يدخل الطّمأنينة إلى النّفس والفكر يكمن في قراءة ومطالعة روايات كثيرة ومتنوّعة؛ محليّة وإقليميّة وعالميّة، وهذه الفترة قد تتطلّب أعواماً، ولكن هذه الأعوام ستكسبه الخبرة الفنيّة والمقدرة الكافية على التّعرف إلى دالّ الرّواية ومدلولها، إلى ما ظهر من عوالمها وما خفي، وبالتّالي سيتمكّن من خلال هذه الخبرات السّير نحو الحصول على المفاتيح الأخرى والتي سيجد سهولة في امتلاكها من حيث الشّخصيّات والأحداث والحبكة والفكرة والمغزى والعقدة والحوار والزّمان والمكان، وهذه المقوّمات ستفتح له بوّابة كبيرة؛ من خلالها سيجد نفسه في روضة تحتضن مختلف أنواع الرّواية. بعد أن يتعامل معها بلطف ورويّة سيدرك النّوع أو الأنواع التي تحلو لفكره ونفسه ووجدانه، لأنّ اختيار الأنواع يكون في البداية صعباً لديه، ولكنّ فكره ونفسه ووجدانه بالتّنسيق مع واقعه وبيئته وبالتّعاون والتّضامن مع خياله سيمهّدون له دروبها بسلاسة وعفويّة. يؤكّد الكاتب دان براون على: “أنّ التّخطيط لروايته يتطلّب الكثير من المجهود والوقت والجهد، وذهب إلى أنّه في رواية الأصل جالس عدداً من المتخصّصين في الذّكاء الاصطناعي وعلماء التّكنولوجيا وباحثين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا”. ويتابع براون: “لا بدّ أن تكون جاداً جدّاً فيما تكتب، وملتزماً بعمليّة الكتابة، وتخصّص وقتاً محدّداً لها حتى ولو كان نصف ساعة”.4
ندرك تماماً أنّ القرن الحالي يختلف عن القرن العشرين بعدّة أمور هامّة وخاصة؛ منها المتعلّقة بالتّكنولوجيا الحديثة والتّطور الهائل الذي طرأ عليها خلال السّنوات العشرين الأخيرة، وظهور وسائل التّواصل الاجتماعي التي جمعت العالم كلّه في غرفة، يتمكّن النّاس من التّعرف إلى بعضهم البعض، والاستفادة من الخبرات والمكتسبات في مختلف جوانب الحياة، ومنها الأدبية والفنيّة، وظهور مئات الرّوايات المحلّية والمترجمة التي تختصر المسافات أمام الكتّاب والقرّاء معاً، ولكنّ لجوء الكاتب حديث العهد بالكتابة إلى كتابة الرّواية سواء كان في مقتبل العمر، أو كان كبير العمر يدعوه إلى التّمهل في خطواته، والتّمعّن في مبتغاه، ويحثّه على البدء من الشّرط الأوّل من شروط كتابة الرّواية؛ وهو المثابرة على قراءة ومطالعة الكثير والكثير من الرّوايات، وفي مختلف الأنواع والصّنوف والموضوعات، والإلمام الوافي بعوالمها وأسس بنائها وتكوينها وأسرارها التي تكون بمثابة الألغاز التي تفكّ شيفرة التّعرف إليها، والحصول على صكّ المعاهدة طويلة الأمد معها.
لا بدّ الإشارة هنا إلى أنّنا لا نحاول انتقاد من يلج أو يحاول الولوج إلى عالم الرّواية، ولا نحاول أن ننتقص من قدرات أحد، لأنّ الرّغبة في سبر أغوارها حرّية شخصيّة ومعرفيّة كاختيارهم لمختلف صنوف الأدب، أو صنوف المعرفة والعلم المتباينة الأخرى، ولكنّنا نحاول أن نوضّح بعض الأمور التي تسهّل العبور إلى عوالمها بيسر وسلاسة، لأنّ عالم الأدب هو العالم الوحيد الذي نستطيع من خلاله تحقيق العالم الذي نسعى إليه، وننشده إذا خيّب عالم الواقع آمالنا، وأذبل براعم طموحاتنا وأحلامنا.
أرى أنّ كلّ إنسان كاتب بالفطرة، بل شاعر مرهف الحسّ، ولكنّ موهبته هذه قد تنمو وتتطوّر مع مرور الوقت، ويسرح في سهول الأدب وهضابه بخفّة وانطلاقة عفويّة، أو يودعها في زوايا ذاكرته الخفيّة، لا يتعايش معها إلا هو شخصيّاً.
نرى أنّ عدداً كبيراً من كتّاب الرّواية والقصّة والشّعر ومختلف الصّنوف الأخرى ينطلقون من حياتهم الشّخصيّة والأسريّة ثمّ من بيئتهم، ويجعلونها محاور رئيسة لنتاجهم المكتوب والمنشور، بعد أن يلجؤوا إلى المخيّلة التي تكون بمثابة التّوابل والمرطّبات التي تسهّل عمليّة هضم أعمالهم الأدبيّة والكتابية؛ لتلامس فكر وعواطف القارئ بلطف وعذوبة.
من هنا يؤكّد الكاتب هيثم حسين على أنّ:
“كلّ إنسان يعتبر مشروع شخصيّة روائية، وأنّ حياته هي مادة خصبة للرّواية يمكن الانطلاق منها لكشف بعض الألغاز وتفكيكها من خلال سبر الأعماق وتظهير الصّور المخبوءة في عتمة الدّواخل”5. التّأني في اختيار الموضوع والشّخصيّات يكسب الكاتب جودة في الكتابة وسرد الأحداث والمواقف دون الوقوع في فخّ التّكرار أو الاستطراد، حيث يقول الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز إنّه: “يخصّص ساعات محدّدة للكتابة كلّ يوم، ولا يتوقّف عن الكتابة أبداً ولو ليوم واحد” كما يؤكّد ماركيز على أنّه: “يستهلك يوميّاً 500 صفحة من أجل كتابة قصّة قصيرة من 15 صفحة”6.
نودّ أن نؤكّد على أنّ الشّهادة الجامعيّة أو التّحصيل العلميّ ليس مقياساً على مقدرة الكاتب أو الأديب على الكتابة، بل هي الموهبة الفطرية، بالإضافة إلى وجوب تنميتها واكتساب مهارات وخبرات متواصلة، وكلّ ذلك مرهون أوّلاً وأخيراً بصدق مشاعر الكاتب، وشغفه بهذا النّوع من الكتابة أو ذاك، وصفاء نيّته مع نفسه ومع الآخرين، لأنّ الشّخص الذي يسعى إلى عالم الأدب والكتابة ليرضي حاجته إلى منافسة الآخرين أو إبراز ذاته أو إثبات شخصيته سيفتقر إلى المشاعر والأحاسيس التي تنبثق من شفافية ونقاء العواطف، هذه العواطف التي تعانق الفكر والمخيّلة والوجدان ليبدعوا معاً عملاً إبداعيّاً مميّزاً.

المراجع:
*1- أسماء رمضان، بين صحبة الأزهار وأضواء الشموع والتدخين بشراهة.. أشهر طقوس الكتابة عند الروائيين، نشر بتاريخ 28/01/2019.
*٢- أ. عبد الله ناصر الداوود (طقوس الكتابة عند الروائيين.. الكثير من الغرائب والطرائف)، الجمعة 22 يناير 2016 موقع الجزيرة دوت كوم.
*٣- أسماء رمضان، بين صحبة الأزهار وأضواء الشموع والتدخين بشراهة.. أشهر طقوس الكتابة عند الروائيين، نشر بتاريخ 28/01/2019- موقع نون بوست.
*٤- بماذا نصح الروائي الأمريكي دان براون الأدباء الشباب؟ الأربعاء 2018/7/25 04:52، موقع العين الإخبارية.
*٥- هيثم حسين، كتاب نقدي جديد بعنوان “الشخصية الروائية.. مسبار الكشف والانطلاق” عن دار نون للنشر بالإمارات مطلع العام 2015.
*٦- أسماء رمضان، بين صحبة الأزهار وأضواء الشموع والتدخين بشراهة.. أشهر طقوس الكتابة عند الروائيين، نشر بتاريخ 28/01/2019.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى