مجلة سيوانمقالات

الهايكو من اليابان إلى العالمية

عبد الجابر حبيب – شاعر ومخرج مسرحي – سوريا

بداية، وقبل الحديث عن الهايكو، علينا أن نعرف ولو قليلاً عن ديانة الشنتو، وفلسفة الزَّن اللتين تركتا البصمة الدامغة في قصيدة الهايكو. فما هي ديانة الشنتو.. الشنتو تعني طريق الآلهة.. تطورت هذه الديانة في اليابان، وكان لها أثر بالغ في التفكير الياباني.. ليست لها تعاليم محددة.. مما جعلها تنفتح على الديانات الأخرى دون أن تؤثر في خاصيتها. لا يؤمن معتنقها بالحياة بعد الموت، ويعتبر جسد الشخص الميت شيئاً مدنساً فيها. تنطلق روحه بعد أن تتحرر من الجسد المادي لتندمج مع عناصر الطبيعة، ولهذا نرى أن فلسفة الزَّن قوامها التأمل والتفكير طويلاً، حتى يصل المتأمل إلى حالة من التجرد عن ذاته، ويصل به الزهد إلى التحرر من شهواته؛ ليصل كما الميت الذي تحررت روحه تماماً… إلى النرفانا…. أي إلى حالة التنوير والتبصير، والتخلص من الجهل الذي كان عائقاً في طريقه إلى المعرفة التامة بكل أسرار الطبيعة وعناصرها.

الشعور بأدق تفاصيلها الحركية في لحظات صمتها
وكم كانت قاسية تلك اللحظات الصامتة وعراب الهايكو الياباني ماتسوو باشو (1644ـ 1694) في صمت مريب أثناء أحد أسفاره، يشعر باشو بأن روحه هي الأخرى تنوي الرحيل، فيكتب آخر قصيدة في حياته، لتضاف إلى مئات القصائد التي خلدت باشو الراهب، ولتلفت الأنظار إلى ماهية فلسفة الزن، وتأثيرها في الهايكو الياباني.
مريض وقت ترحالي
وأحلامي تتجول طافية
في الحقول الذابلة…
نعم هو باشو الراهب الياباني الذي قضى جلَّ وقته في التأمل ومراقبة الطبيعة. الآن جاء الوقت لتتطهر روحه دون عناء التمرين للانصهار في الطبيعة لتكون أحد عناصرها.

ما هي قصيدة الهايكو
أتذكر في فقرة من فقرات أحد النوادي يطلب المشرف بوضع تعليق عن تعريف الهايكو.. وكتبت في حينه ثلاثة تعاريف عن الهايكو
تعريف الهايكو
الهايكو عين صقر
قلب عصفور
جناح فراشة
قلم شاعر يلتقط اللحظة بمخالب نمر.
وبِإحساس بتلات الزهر بزخات المطر


قصيدة الهايكو. كلمات نابعة من قلب طفل….عفوية، آنية. تعكس صورة اللحظة الحية من الحياة.


قصيدة الهايكو تشبه تلك النحلة التي تحط على بتلات زهرة ما.. وتمتص الرحيق لتصنع عسلاً.. دون أن تجرحها.
هكذا يجب أن يتعامل الهايكست مع عناصر الطبيعة. يأخذ منها أجمل النصوص دون أن يترك أثراً سلبياً وراءه…


من أين جاءت كلمة الهايكو
يشير الأستاذ الشاعر محمد عضيمة
في كتابه الهايكو الياباني بما معناه الهايكو شعر ياباني، تعمقت جذوره في التاريخ الحضاري الياباني، ويتألف من مقطعين الأول /هاي/، ومن معانيه المتعة والإمتاع، أو الضحك والإضحاك. وكما يتم ذلك في التشخيص والتمثيل بغية إدخال السرور إلى قلب المشاهد.. والمقطع الثاني /كو/، ومعناه لفظة، أو كلمة، وحسب ما يشير مؤلف الكتاب إلى التطور الدلالي عبر التاريخ، ليصل في نهاية المطاف إلى (المزاجية الظرفية.. العبثية المسلية).
ويقول الشاعر جواد وادي عن ذلك في مقال له في مجلة المثقف: يوظف الهايكو حالات هزلية، تتقصّد السخرية، وبثّ حالات الفرح والابتسامة، لتتحول المواقف الصارمة في الحياة إلى حالات من الانتشاء المفرح).
ولا شك أن الهايكو في رحلته الطويلة لاقى الكثير من التغيير في رسم ملامح جديدة لقصيدة الهايكو، ومن الشعراء الذين كان لهم دور بارز (ماساوكا شيكي: 1867ـ 1902)، الذي أعطى أهمية خاصة للخيال الشعري، على خلاف المعلم الأول الذي ركز على التأمل وفلسفة الزن، ويعتبر ذلك (تحررا من قيود الهايكو الموروثة منذ عهد الشاعر باشو)، كما ينوه الشاعر جواد وادي.

تجذّر الهايكو في اليابان
لا أريد أن أسهب في الحديث مطولاً عن ماهية قصيدة الهايكو، وهي نوع من أنواع الأدب الياباني، قِوامها سبعة عشر مقطعاً صوتياً باليابانية، وتكتب في ثلاثة أسطر، وكما علمنا باشو هو رائد الهايكو مع إيسا… وبوسون.. وشيكي….
فازدهر الهايكو في القرنين التاسع عشر والعشرين، حتى كانت بداية تخطي الهايكو حدود اليابان نحو العالمية، ففي أمريكا والغرب الأوربي تمَّت ترجمته بداية، ثم محاكاة القصيدة اليابانية، ثم كتابتها وتطويرها بما يناسب الجرس الموسيقي للغة كل بلد.

الهايكو الوافد إلى البلاد العربية
من ستينات القرن الماضي تحديداً في [١١ نيسان ١٩٦٤] كان الشاعر والمفكر الفلسطيني يلقي نصاً له في الجمعية الأدبية المصرية، وهو عبارة عن عشرة توقيعات قصيرة، والتي أطلق عليها الاستاذ صدام أبو مازن بشعر الومضة.. بعناصره الخمسة التكثيف ـ المفارقة ـ الإيحاء ـ الإدهاش ـ الختام المباغت.. فكانت هذه التوقيعات بمثابة الهايكو الأول الذي جاء مرتدياً اللباس التقليدي الياباني، ويتحدث بلغة عربية.. وهناك من شابه بين الهايكو والشذرة والومضة الشعرية التي ماتزال الأقلام الواعدة والمبدعة تبدع فيها.
ولكن هل تطورت، وانتشرت قصيدة الهايكو بعد تجربة الأستاذ عز الدين المناصرة… لا أعتقد بأن الهايكو بمفهوم القصيدة كان له حظ من الانتشار إلا في الآونة الأخيرة منذ عقد من الزمن من تاريخ هذا المقال. وذلك عن طريق انتشار الأندية الخاصة بالهايكو في مواقع التواصل الاجتماعي… وحظيت بنصيب كبير ممن استساغ هذه القصيدة التي واكبت العصر حركة وسرعة وإيقاعاً… وكأنها جاءت لتختصر الوقت والمسافة، لتكون على مقاس الإنسان المعاصر.
ومن تلك الأندية التي شجعت رواد كتَّاب هذا الصنف من الشعر في بداية الأمر:

  • نادي الهايكو العربي ـ نادي الهايكو الحر ـ واحة الهايكو ـ الهايكو سوريا ـ مجلة هايكو الشام ـ نبض الهايكو ـ هايكو المغرب الكبير ـ هايكو حول العالم ـ هايكو المجاز والتأويل…
    وفيما بعد ظهرت نوادٍ أخرى، واشتدت المنافسات بين هذه الأندية الخاصة بالهايكو، لتجذب أكبر عدد من الأعضاء. رغم أن كاتب الهايكو كان عضواً في أغلبها. ولم تتوقف المساعي لتأسيس أندية أخرى مثل هايكو مصر… وهايكو الأردن، الذي أطلق على نفسه هايكو شعراء الطبيعة…
    ولا أريد أن أبخس أي ناد حقه… وأذكر نادي الهايكو العالمي… مملكة الهايكو… الجوّالون… الهايكو الذهبي… هايكو التعايش والسلام… روّاد الهايكو….
    بالـتأكيد هناك أندية أخرى، ربما لم أسمع بها.. وعذراً من أي ناد، لم أذكره هنا، لا لشيء، إنما الذاكرة لم تسعفني…
    وهنا فقط عليّ التذكير بأن الذين وقفوا ضد قصيدة الهايكو، ولم يتوقعوا للهايكو العربي أي مستقبل فقد خابت توقعاتهم، وخاصة بعدما طبعت الكثير من الكتب الالكترونية لشعراء هذه الفترة المحصورة ما بين 2014 ـ 2020. وليس هذا فحسب، بل تم نشر كتب ورقية لكتّاب الهايكو في أرجاء البلاد العربية، وسقطت مقولة لا مستقبل للهايكو…
    بحجة العودة إلى الجذور والأصل، وكأنهم نسوا تماماً نفس المواجهة لقصيدة التفعيلة والحر والنثر قبل الهايكو.. وكنت طرحت سؤلاً مفاده الجذور للشجرة، إن لم تكن لديها فروع وأغصان وأزهار وثمار.. هذه الفروع التي تزين الطبيعة.. نعم لولا الجذور لما كانت الفروع…
    إذاً هكذا هي الحضارات الإنسانية من جميع النواحي، في حالة مستمرة بالتأثير والتأثّر.

الصراع حول شروط الهايكو بين الأندية الخاصة بالهايكو
حتى اللحظة لم يتفق الجميع على بنية القصيدة، ومازالت الآراء بين شدٍّ وجذبٍ.
ـ فمن يرى مثلاً باستخدام قدر من المجاز، ويرى الآخر بأن المجاز يحول الهايكو إلى مجرد شذرة أو خاطرة قصيرة.
ـ ومن يدافع عن الهايكو الكلاسيكي المحض… وهناك من رأى بأن الهايكو الهجين لا عيب فيه.
ـ ومن رأى بأن فصل السنريو عن الهايكو ضرورة، ولهذا أعتقد بأن الأستاذ محمود الرجبي قد أسس في الآونة الأخيرة نادي السنريو العربي…
ـ من رأى بأن الهايكو الذي يبدأ بفعل ينتج قصيدة ضعيفة.
ـ من رأى بأن تعدد الأفعال في الهايكو يُضعف القصيدة.
وقد نشر كل مسؤول في ناديه آراءه حول ما سبق، وسأورد بعضاً من هذه الآراء، لا تشجيعاً لأحد على حساب الآخر.. بل إيماناً مني بأن الخلاف بالرأي لا يذهب بالود، وبالتالي قد يكون ذلك يصب في مصلحة قصيدة الهايكو حتى تتبلور تماماً…
الآراء
ـ الأستاذ محمود الرجبي ٢١ / يوليو نادي الهايكو العربي
على ماذا نختلف في الهايكو؟! على الذاتية أو التنحي والمجاز والأنسنة ومفهوم الدهشة أو الحكمة أو الاستنارة في النص؟!
إذا كان الأربعة الكبار في الهايكو، قاموا باستخدامها في قصائدهم قديما، وتغير الهايكو، وتطور هذه الأيام عند اليابانيين.
ـ الأستاذ علي القيسي 7 ـ فبراير 2020، يدعم مقالته بقول لـ بلايث (إنه وحده ـ الهايكو ـ الذي يستطيع أن يعطي معنى للحياة، ويبرر طريق الرب للإنسان).
ـ الأستاذ محمود الرجبي 4/12/2018
ما دمت تؤمن بهايكو لا نؤمن به، فلماذا تتألم كلما نفرح نحن بهايكو نؤمن به؟!، هل هو الاسم؟! وماذا يضيرك استخدام نفس الاسم؟ يا سيدي، اعتبره كاسم (محمود) لرجل لا يوجد فيه ما يحمد عليه.
ـ الأستاذ محمد بنفارس (الهايكو ليس حاملاً للحكمة على الإطلاق)
ـ الأستاذ قاسم حبابة 18/حزيران 2019

مفسدات الهايكو

  • الكتابة بالزمن الماضي ـ المجاز- المخاطبة – الأنسنة.
  • التكلم عن الذات – بداية القصيدة بفعل.
  • تكرار نفس المفردة.
    ـ الأستاذ شفيق درويش في مقال للأستاذ علي القيسي ١٥ كانون الأول ٢٠١٩ (لا شيء يمنع المجاز)، (ولكن المجاز الذي يحول النص إلى رؤية ذاتية يهدم ركناً هاماً من أركان الهايكو)، يقول الأستاذ شفيق درويش في نهاية المقال، رافضاً المجاز رفضاً قاطعاً (إقرار السماح بالمجاز والتنحي كخيار للشخصية العربية في الهايكو يشبه إحضار سيارة مرسيدس، وتغيير المحرك، وتركيب محرك بقصد الإبقاء على الهيكل والشكل، والإصرار على أنها سيارة مرسيدس…
    ـ محمود الرجبي ١١/ ٨/٢٠٢٠ يتحدث عن قصيدة الهايكو
    (وهذا الأثر له عدة تسميات تتكاثر عنها تسميات أخرى عديدة، حسب الحضارة والبيئة والثقافة واللغة، فقد تكون عندنا: الدهشة أو الحكمة أو الصدمة، أو أي شيء يوقظ مكابح العينين، أو العقل أو القلب أو التأمل أو الصمت أو حتى الصراخ الداخل).
    ـ الأستاذ محمد بنفارس في مقال 2/ 2/2020
    (وتستمر المهازل على خارطة الهايكو العربي. تناول أحد النقاد نصاً ليس من الهايكو في شيء، فاعتبره هايكو بكل مؤشرات الجنس).
    ـ الأستاذ محمد بنفارس في مقال 17شباط 2020
    (هل نستمر في أندية الهايكو العربية في صناعة المريدين، وتأهيل الكتائب، وتحريك الدمى لدعم نصوص باهتة).
    ـ الأستاذ علي القيسي في مقال نشر 15 كانون الثاني 2020، مختبرا الهايكو على لسان الأستاذ جمال الفزازي، (الخطير في الأمر هو أن تصير الرداءة والضعف هي معيار الشعر وميزانه، وتصير الجهالة سلطة)..

الخاتمة
السؤال الذي يطرح نفسه أمام هذه المهاترات التي لا تنتهي في الأندية الخاصة بالهايكو. وخاصة أولئك الذين تبنوا الهايكو العربي. ولا يرون غير أقلامهم، وكأن من حقهم وحدهم كتابة الهايكو أنصاف الآلهة. هل سيعودون هؤلاء يوماً عن تكبرهم، وينزلون من عروشهم الخاوية. أم أن الحقد قد أعمى بصيرتهم أيضاً..
كم كنت أتمنى أن تكون العلاقة الحميمية هي السائدة بين جميع الذين وضعوا على عاتقهم مسيرة الهايكو العربي. لنصل به إلى هايكو جميل، فيه كل ما نرجوه لهذا الوافد إلينا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى