الأيديولوجيا،
هل هي وعي زائف
أم هي منظومة قيم ؟*


جان – كلود بوربالان* تطور مفهوم الأيديولوجيا مع الماركسية. والأيديولوجيا
(الدين بصورة أساسية) كانت تُدرك كوعي مزيف يقوم
على حجب هيمنة الطبقة، وفي غضون القرن العشرين
وصفت كمعادل لثقافة فئة اجتماعية أو سياسية.
ابتكر الكونت أنطوان دو تراسيAntoine de Tracy *عام 1796 كلمة ((الأيديولوجيا)) (2). كان يطمح من وراء ذلك تأسيس علم جديد يقوم على فهم الأفكار وتفسيرها. والمقاربة هذه كانت مستوحاة أصلا من مجمل تراث تجريبي؛ حيث كانت الإدراكات الحسيّة تشكل فيه أساس التصورات والأفكار. وفي الحركة التجديدية العلمية والسياسية والأخلاقية للثورة الفرنسية، استخدم مجموعة من العلماء المصطلح مجدداً، كان من بينهم فولني Volney وكاباني Cabanis، وسمّوا بـ ((الأيديولوجيين))، أو متخصصين بـ ((الأيديولوجيا)) في التفسيرات اللاحقة.
لقد كانوا يسعون إلى بناء تربية جديدة، ونظام سياسي جديد؛ يتلاءمان مع التقدم العلمي، وتطور الفكر الإنساني.
تأثر هذا التيار بالتقليد التجريبي في المعرفة وبفلسفة الأنوار، وبمناهضة الفكر الميتافيزيقي الذي يمثل بنظرهم طفولة الإنسانية. لم يكن نابليون يحب الأيديولوجيين، فقد اتخذ فيما بعد رؤية سلبية عن الأيديولوجيا، وباتت كلمة الأيديولوجيا على لسانه بمثابة سخرية، إذ انتقد النزعات التنظيرية لمخاطبيه.
مع ماركس
سيتناول كارل ماركس، الملقّن الرئيس لثورة ((الأيديولوجيا))، هذا المفهوم الجدلي، فهو يرى أن الأيديولوجيا هي الانعكاس الخيالي للعالم الواقعي (نمط الإنتاج وصراع الطبقات)، وهي تضم الدين والمذاهب، والنظريات السياسية، والفن، إلخ… فقد اعتبرها كشيء وهمي وخاطئ. بالنسبة للمفهوم الماركسي الأرثوذكسي، تنجم أنظمة الأفكار أو المذاهب أو القيم المجتمعة تحت راية التسمية الشاملة للأيديولوجيا، عن الطبقة المهيمنة، ووظيفتها الحفاظ على هيمنتها.
إن التستر على الهيمنة الطبقية ينطلق من الإرادة التي يؤكد عليها ((المفكرون البرجوازيون)) بغية الادعاء بشمولية القيم، والمعتقدات، والأفكار الخاصة بالطبقة المهيمنة: إنها، حسب الماركسيين، حالة مفهوم الحرية الذي يخفي، تحت غطاء العالمية، إمكانية استغلال الكادحين ((بحرية))(3 ).
لقد تطور مفهوم الأيديولوجيا بقوة في غضون قرن ونصف؛ بسبب المحاولات التي قام بها مفكرو الماركسية الرئيسون؛ بغية إدراج الرؤى اللاماركسية للأيديولوجيا في رؤاهم.
سيقترح كارل مانهايم *Karl Manheim في مطلع أعوام العشرين رؤية؛ حيث لم تعد الأيديولوجيا تدرك فقط كوهم وكوعي مزيف. إنه يحدد السيرورة الكونية للأدلجة التي من خلالها يتعرض مجمل نظامها الفكري لتبعات، ويجد نفسه سائراً نحو تحقيق هذا الهدف، وذلك عندما يختار فرداً ما أو فئة اجتماعية مشروعاً للعمل. وفي نهاية المطاف، يسعى مانهايم إلى حصر حقل التفكير في إطار أيديولوجيا العقائد السياسية، موقف كهذا سيصبح شائعاً على مدى القرن العشرين (4). بينما، أنطونيو غرامشي *Antonio Gramci، ذاته، سيشدد على استقلالية حقل المذاهب السياسية، واستقلالية الدين بالنسبة إلى السيرورة الاقتصادية.
والأيديولوجيا بنظر الفيلسوف الماركسي هي تصور للعالم، وعقيدة تحفز على العمل والنشاط. وهذا التصور يتجلى لديه إلى حدّ كبير ((في القانون، وفي النشاط الاقتصادي، وفي مجمل مظاهر الحياة الفردية والجماعية، كما يتجلى في الفلسفة والدين والفولكلور والأدب، وكذلك في الصحافة بوصفها الحاملة المادية للأيديولوجيا)).
في أعوام 60 و 70، سيحاول الفيلسوف الماركسي لويس ألتوسير Louis Althusser * تجديد التفكير حول الأيديولوجيا، ويرى أن الأيديولوجيات تتعارض مع العلم، بينما تظل نشطة في المجتمعات التي تشكل الصيغة الطبيعية لتصوراتها الجماعية، ويعتبر أن ((الطابع الأيديولوجي)) لمجتمع ما يظهر على شكل ((حقل أيديولوجي))، حيث تتصادم عدة أيديولوجيات مرتبطة بالطبقات الاجتماعية المختلفة. وما صنع شهرة ألتوسير، ذلك عندما قام بتحليل ((الأجهزة الأيديولوجية للدولة))، وهي، برأيه، أداة تلقين الأيديولوجيا المسيطرة، وجزء لا يتجزأ من الدولة، وهذه المؤسسات (الكنائس، النظام التربوي، الأسرة أيضاً، المنظومة الثقافية، إلخ…) تكمن ميزتها العامة في أنها تعمل وفق ((المنطق الأيديولوجي)).
بدون ماركس
وعلى خلاف رؤية ماركس، المهيمنة إلى حدّ كبير، تطورت مفاهيم أخرى؛ فالتراث الاجتماعي هو أيضاً، بموجب ريمون بودون Raymon Boudon، تجنب بقوة استخدام مفهوم الأيديولوجيا، ما عدا فيلفريدو باريتو Vilfredo Pareto، تماماً قبل أن تظهر الأعمال الأساسية للفيلسوف ريمون آرون Raymond Aron *، وبما أن تركيزهم انصب على الماركسية، فإنهم حصروا حقل إدراك الأيديولوجيا ضمن المذاهب السياسية.
إلا أن آرون يصر على اعتبار الأيديولوجيات على أنها تمثلات مزيفة. في السنوات 70 و 80، واصل جان باشلر Jean Baechler وبيير أنسار Pierre Ansart دراسة الأيديولوجيات ضمن هذه المجموعة، مضيفين إليها أبعاداً جديدة بفضل استخدام مقاربات تتصل بعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الإدراكي، كما هي الحالة عند كل من بودون، والتحليل النفسي عند آنسار.
ثمة مفهوم آخر للأيديولوجيا تم تطويره؛ ومفاده أن الأيديولوجيات باتت عبارة عن رؤى عامة عن العالم، يعرفها عالم الاجتماع الأمريكي ادوارد شيلس Eddward Shils في الأعوام الخمسين كنمط خاص من منظومة المعتقدات، وفق هذه الرؤية، تزود الأيديولوجيات إطاراً فكرياً لأفراد الجماعة أو المجتمع، مقترحةً توجهاً محدداً لعمل هذه الجماعة أو هذا المجتمع.
نهاية الأيديولوجيات؟
إن الفكرة القائلة إن الأيديولوجيات الكبرى (الفاشية، الشيوعية) دخلت في طور الزوال يعود تاريخها إلى سنوات الخمسين، وهي فكرة ريمون آرون الذي أعلن، في كتابه، أفيون المثقفين، الصادر عام 1955، نهاية العصر الأيديولوجي. لقد تمت دراسة هذه المسألة عن كثب في ميلانو في العام نفسه أثناء المؤتمر الذي انعقد حول هذا الموضوع، بحضور باحثين ومثقفين أمريكيين وأوربيين.
عندما افترض السوسيولوجي الأمريكي دانييل بل Daniel Bell، في كتابه، نهاية الأيديولوجيات 1))، الصادر عام 1963، كان يشير فقط إلى نهاية العقائد السياسية ذات النزعة العالمية والإنسانية الخاصة بالغرب، لاسيما العقيدة الماركسية. في الواقع، لم يتحدث عن أيديولوجيات ذات نزعة ذاتية وقومية للأعوام 60 و70، المهجنة بالأفكار الثورية والشيوعية، إذ أثبت بالعكس انطلاقها في دول العالم الثالث(5).
بعد انتقاد هذه الأطروحة بشدة حول نهاية الأيديولوجيات، هي اليوم فضاء عام: فالعقائد السياسية ذات النزعة الكونية المنحدرة من المسيحية، ومن الثورة الفرنسية قد شارفت على الموت في المجتمعات الغربية. هنا حيث طور الفرد إلى حدّ كبير نموذجاً من المعتقدات اللاعنفية، قائما على الروابط النسبية والتعددية، والانتماء إلى القيم الإصلاحية والديمقراطية.
غير أن السجل الأيديولوجي يثبت بوضوح على زيادة العقائد ذات النزعة القومية أو الدينية أو الثقافية القائمة على الإقصاء والنزاعات؛ فحتى لو بدت الروابط والمشاعر العنيفة في طريقها إلى الزوال نهائياً في البلدان المتقدمة، فهل يجب الأخذ في الحسبان بأي حال بأن الأمر يتعلق بنزعة تسير باتجاه واحد؟ وهذا طبعاً ليس رأي دانييل بل الذي يقول إن ((التعطش لقضية ما، عندما يتعلق الأمر بالثقافة الغربية، قد يكون له حضور دائم؛ لأن هذه الطموحات تعود إلى الينابيع الطوباوية، والألفية للفكر المسيحي)).