صوت من الجنّة


وجه مشرق، ابتسامة عريضة، نشاط يسري في جسدها، تستقبل ولادة صباح ورديّ آخر برفقة شريكها، تتهيّأ لإعداد الفطور، والسعادة تغمرها، قبل أن تتوجه إلى المطبخ تأخذ الرضا من والدة زوجها، تجمعهم المحبة، خمسة أشهر زادتهم نشوة، ليالي صيفهم لفّت بالبهجة، لتتكلل سعادتهم؛ وهي تخبرهم بمجيء ضيف جديد، لتزغرد حماتها فرحا، وتبدأ بمباركتهما وتتلو الصلوات ليحفظهما الخالق…
انسابت أصوات مخيفة مع هدأة ذلك الصباح، وهدمت سكينتهم، هرعت قبل أن يتحطم باب الدار لقوة الهدير القادم من الخارج، فتحت؛ وإذ ببلدتها قد تحولت إلى ساحة يتعالى فيها الضجيج، وكأنه يوم الحشر؛ تراكض الجميع، وتداخلوا ببعضهم، وتخبطوا، لا يدرون لمَ، وإلى أين المفر، كانت الأمهات تبحثن عن أطفالهن وسط عويل ولهاث، فيما انشغل الآباء بتدوير محركات سياراتهم؛ وما إن تتحرك تلك الآلة حتى تفقد السيطرة عليها…
جامدة بمكانها دون حراك من هول ما رأته؛ إلى أن أفزعها صوت والدة زوجها.
- ما بك سامية؟
لأن وقوفها قبالة الباب قد طال، مما أثار قلقها أيضا، ولأن الصخب القادم من الخارج أخذ يزداد ويخترق الجدار…
صرخ كبير الأسرة بهم، وأمرهم بالخروج فورا قبل أن يقعوا في الأسر، تركوا كل شيء وراءهم؛ ضحكاتهم، أحلامهم، أحزانهم، ذكرياتهم وكل الآمال التي رسموها والتي ولدتها لتوها مع ولادة تلك النطفة في أحشاء كنتهم؛ التي اكتفت بأخذ حليّ عرسها قبل المغادرة…
تولى زوجها قيادة العربة، محاولا إيجاد منفذ بين العربات التي قد سبقته مذ سماع الخبر المفجع، يحاول تخطي السيارات عبثا، مرت ساعة إلى أن وجد منفذا بعد عناء شديد، توجه كما الكل باتجاه الجبل؛ موطنهم الأصلي، وفي منتصف الطريق كانت في استقبالهم سيارات وعربات استطاعت اللحاق بهم لشدة سرعتها، محملة برجال يغطيهم السواد، ومدججين بالأسلحة وقد صوبت كلها باتجاههم، لتجبرهم على التوقف والاستسلام لقدرهم، لذا رفع يديه عن مقود السيارة دون أية مقاومة، فيما تمسكت سامية بكتف زوجها لتحتمي به، وكان العرق يتصبب من جبينها، وتزداد ضربات قلبها تلقائيا، شعور مخيف سيطر عليها، كأنها تشتم رائحة الموت، وإحساس مرعب يتسرب إلى فؤادها الذي بدأ ينفطر، ومعه أخذت أطرافها بالرجفان، ولم تستطع التحكم بنفسها، عيناها تخبرانها، لا مفر…
استجاب الجميع للأمر، خوفا على نسائهم وأطفالهم، في تلك الأثناء؛ انسل بعض الفتية الذين كانوا في مقتبل العمر، لم يتمكنوا من كبح غضبهم، لم يروهم، دماؤهم كانت تثور من شدة الغليان، هاجموا على بعض العناصر، دون التفكير في العواقب، فالتعرّض لأعراضهم ومعاملتهم كعبيد أفقدهم السيطرة على أنفسهم. تمكنوا من التقدم نحوهم لعدة خطوات فقط، ولم تبلغ الأمتار، فالرصاص سبقهم، وبدأ يمزق صدورهم، وأرداهم قتلة خلال ثوان؛ تعالى عويل ونحيب الأمهات الثكلى، البعض منهن تملكتهن نوبة من الجنون، تلطمن وجوههن وتشددن شعرهن، ركضن لاحتضان الأجساد الملقاة على الأرض والمغطاة بالدماء.
طال الرصاص من كن في المقدمة وأوقف البقية وأبعدهن، استطاعت تلك الطلقات إثارة الهلع والرعب في نفوسهن، ليكون صاحب الكلمة والمسيطر على الوضع، لم يجد صعوبة في اصطياد المزيد من الضحايا، بحركة من فوهة البندقية، تصدر الأوامر للبقية العزل بالتحرك فورا والتجمع في ساحة البلدة دون مواجهة أو اعتراض…
انقلبت سعادتهما إلى جحيم، دهست أيام عسلهما بين الأرجل، هدموا عشهما وما زال حديث الولادة. طول الطريق باتجاه المجهول، كانت يداها تضمان بحركة لا إرادية، وتلفان النطفة التي أخذت بالنمو في رحمها؛ للحظات كانت مصدر بهجة لهما، وبعد اللحظات التي أعقبتها تحولت إلى غصة تخنقها، ما الذي ينتظرهم جميعا؟ فما كان يجري لا يبشر بأي فرج، فما كان منها سوى مواصلة الضغط على بطنها وأخذت تتمتم بخوف: لا تخف؛ سأحميك…
تتدافع الأجساد، ويزداد الصدام بينهم، فقدت السيطرة على ثبات خطواتها، باتت كقطعة قماش تتقاذفها الرياح يمنة ويسرة، جالبة معها انقباضات وتشنجات في أحشائها، بدت بسيطة ومتقطعة في البداية، وسرعان ما ازداد الألم وتخبط في سيرها، لم تستطع تحمل ما يحدث داخل بطنها، هاجمتها نوبة من البرودة تارة والسخونة تارة أخرى، تحوّل الألم إلى جمرة حارقة، تمزّق جدار رحمها، أودى إلى احتدام صراع وحدها تشعر به، اشتد الصراع ما بين النطفة ومصدر الألم، العرق يتصبب بغزارة وتتمايل في مشيتها، شعرت بقوة تحاول اقتلاع فلذة كبده، فصلت النطفة عن جار الرحم وقتلتها على الفور…
استنفر كل عصب في جسدها، أحست بأن سيلا من الماء الحارق يسير في أوصالها، خارت قواها، ولم تعد قادرة على مواصلة الطريق، تملكتها رجفة من أخمص قدميها إلى كل شعرة في رأسها، وسقطت مغشية عليها، لتبدأ والدة زوجها بالصراخ، توقف الجميع، شكلت النسوة حلقة حولها، حملها زوجها، وتابعت قطرات من الدم القاتم يوثق أثرها…
فتحت عينيها، تيبس حلقها من شدة العطش، حركت لسانها طالبة قطرات من الماء؛ عاونتها والدة زوجها على النهوض والجلوس بإسناد ظهرها إلى الحائط، لتتمكن من الشرب، نظرت للعجوز وقد فاضت عيناها بالدموع، سألتها قائلة: - ماذا حدث يا خالتي؟
- أين نحن؟ لمَ أنا في هذه الحالة؟
دمعتان عصيتان حارقتان، كانتا كفيلتين بالإفصاح عن الحقيقة المرة، ربتت على كتفها بحنان محاولة مواساتها: - العوض بسلامتك يا ابنتي…
انطلقت على إثرها من ذلك المكان، ليكون هذا آخر لقاء بينهما، حيث تبعثرت طرقهما، ووصلت إلى مدينة حلب السورية في إحدى القرى المحيطة بها (قرية النعيمية)، لكنها لم تكن النهاية؛ رميت في أحد المقرات العسكرية التابعة لهم، لتكون خادمة تحت إمرة عشرات العناصر المرابطين فيها، لم تكن وحدها؛ وإنما تشاطرها المذلة والألم فتاة ثلاثينية من أحد القرى المجاورة لبلدتها…
دخل عليها رجل ضخم الجثة، أمرها بالوقوف أمامه، أخذ يتفحصها بعينين يشتهيانها من جهة، ويرمقها مخفيا رغبته باغتصابها من جهة أخرى، غير أن الأوامر كانت تفوق قدرته على تلبية رغباته الشهوانية في تلك اللحظة، وعليه أخذها إلى ذلك المقر دون التصرف بها لوحده. أشار إليها بأن تتبعه إلى السيارة، نفذت الأمر واكتفت بالصمت، خوفا من حدوث ما لا يحمد عقباه، وحدها لن تتمكن من فعل شيء؛ فلا مغيث ولا منجد.
استقلا السيارة، كسر صمتها، وأخذ يملي عليها الأوامر والتحذيرات، أما الفتاة الثلاثينية فقد تحولت إلى صماء خرساء عمياء.
نظر إليها وأخذ يهمس لها بحذر، خشية أن يسمعه السائق: - اسمعيني سأهبك لزوجتي الألمانية، مهمتك السهر على خدمتها والاهتمام بأولادنا، لكن أحذرك؛ من الإهمال وعدم الانصياع لأوامرها…
قضت ثلاث سنوات في الخدمة، من ثم أقدمت زوجته الألمانية على بيعها بعد أن دفع فيها مبلغا مغريا، غير أن هذه البيعة لم تكن لأجل الخدمة، بل لأجل المتعة واغتصابها؛ ما إن علمت الغاية من بيعها، أقسمت على ردعه وإن كلفها حياتها.
أجبرها الشاري على الدخول في بيت قد هيأه لنزواته الشهوانية، كان مهجورا من ساكنيه، ولا يوجد فيه شيء سوى أثاث مبعثر بين زوايا الغرفة، وسجادة بنية مهترئة لا زالت ممددة في وسطها.
اقترب منها، مدّ يديه، شدها إلى صدره، صرخت بجنون، مدت أصابعها، جرحت وجهه بأظافرها، أبعدت أنفاسه النتنة، منعته من لمس شفتيها، بينما استطاعت مخالبه الغليظة إمساكها بين قبضتيه، مزق ثوبها، ثبت يديها وقدميها، بعد أن مددها على الأرض. لم تيأس؛ هاجمته بصرخاتها الممزوجة بالشتائم ووصفته بالمجرم، كان فاقد الإحساس، وواصل ما كانت نفسه تهفو إليه، بلغ مراده منها…
أطلق قهقهة أسمعت الجوار، نظر إليها كالمنتصر، قائلا لها: - لقد انتهيت الآن؛ أكملي شتائمك، لكن يتوجب عليك أن تشكريني؛ فقد منحتك بركاتي، وطهرتك من الكفر، وواصل ضحكته…
مضت الأيام وهي لا تزال أسيرة لنزواته، استعادت وعيها حالما علمت بأنه لقي حتفه. وهي لا تزال أسيرة ذلك الوكر، وحيدة غريبة تائهة، لم يعد النوم يعرف طريقا إلى جفنيها، وفوق كل ذلك كانت تسمع دائما صوت الاشتباكات القادمة من الخارج، سعت جاهدة لتتحلى بالصبر، ظلت مترددة لساعات لكسر ذلك السجن والتغلب على الخوف الذي قيدها.
فتحت الباب، قررت المجازفة، توجهت نحو مصدر القصف، وقد صممت على الانعتاق من السبي…
شقّت طريقها، كانت قدماها تقودانها بلا سبيل، مغمضة العينين. لمحها أحدهم من بعيد، صوب سلاحها نحو الهدف، لحظة تأن قبل التصويب، أعلم رفيقه الأقرب من الهدف، موكلا إليه مهمة التصويب، لكنه لم يوافق وأراد الامساك بالقادم، ليركض الأول بخطوات سريعة وحذرة للالتفاف على الهدف، توقف فجأة. - يا إلهي إنها امرأة تتجه نحو حتفها…
تابع الاقتراب منها، صرخ علها تتوقف، تفصلها عشرات الخطوات عن مركز الاشتباكات، تابع المناداة عليها. - توقفي؛ توقفي…
ظلت صماء، كانت رغبتها تزداد بمعانقة الموت، بازدياد قربها من أصوات الرصاص…
أدرك المقاتل المتجّه لإنقاذها، نيتها في الانتحار، لذا قرر الإسراع أكثر، عدة أمتار تفصل بينهما، أخيرا أفاقت من شرودها، حالما سمعته يناديها. - توقفي أرجوك…
خيَّل لها بأنه صوت قادم من الجنّة؛ تسمّرت في مكانها، استدارت للخلف، نظرت في عينيه، ابتسمت، ومضت معه…
