أهمية العنوان في الرواية
في امتداح العنوان
يعد العنوان أول تجليات الخطاب التي يقابلها القارئ قبل أن يشرع في قراءة النص. ومع أن وظيفة العنوان الأساسية هي التحديد والتسمية، فإن دلالته تؤسس بصفته دالاً يتكمل بمدلوله، أو أفقاً يفتح المجال أمام توقع القارئ، او علامة ناجزة. ولعل أسوأ العناوين – في الكتابة الفنية – هو الذي يأتي علامة ناجزة، لأنه يلغي الاحتمالين الآخرين، ولأنه بهذا الإلغاء يهمش دور القارئ في عملية إعادة إنتاج النص وتأويل دلالته النهائية.(1)
فالعنوان هو العتبة النصية الأولى للنص، وتتجلى امتداداته وإشاراته من خلال سيمولوجيته السردية في الرواية، وهو الخاص بالعلامات التي تشير إلى أشياء أخرى، حيثي يحيل إلى أشياء قد يقصدها الروائي أو يستشفها الناقد في أثناء تحليله، متعمداً على عنصر الخيال؛ لأن العنوان ما هو إلا حيز في الفضاء، ذلك ان الفضاء المرسوم على صفحات الرواية هو فضاء تخيلي.(2)
وتنبثق أهمية العنوان – سليل العنونة – من حيث هو مؤشر تعريفي وتحديدي، يُنقذ النص من الغفلة؛ لكونه – أي العنوان – الحدّ الفاصل بين العدم والوجود، الفناء والامتلاء، فأن يتملك النص اسماً (عنواناً)، هو أن يحوز كينونة، والاسم (العنوان)، في هذه الحال، هو علامة هذه الكينونة: “يموت الكائن، ويبقى اسمه”.(3)
ويعد العنوان عنصراً من أهم عناصر النص الأدبي، حيث كونه مكون داخلي يشكل قيمة دلالية عند الدرس، حيث يمكن اعتباره ممثلا لسطلة النص وواجهته الإعلامية التي تمارس على المتلقي إكراهاً أدبياً كما أنه الجزء الدال من النص؛ الذي يؤشر على معنى ما، فضلاً عن كونه وسيلة للكشف عن طبيعة النص والمساهمة في فك غموضه.(4)
وهو: علامة لغوية، تتموقع في واجهة النص لتؤدي مجموعة من وظائف تخض أنطولوجيا النص، ومحتواه، وتداوليته، في إطار سوسيو – ثقافي خاصاً بالمكتوب، وبناء على ذلك، فالعنوان من حيث هو تسمية للنص وتعريف به وكشف له، يغدو علامة سيميائية، تمارس التدليل وتتموقع على الحد الفاصل بين النص والعالم، ليصبح نقطة التقاطع الاستراتيجية التي يعبر منها المص إلى العالم، والعالم إلى النص، لتنتفي الحدود الفاصلة بينهما، ويحتاج كل منهما الآخر.(5)
وتعد شفرة العنوان من أخطر الشيفرات في النص الروائي؛ لما تحمله من ترغيب وجذب للمتلقي؛ فضلاً عن كونها تحمل تمويهاً، وتلغيزاً، وترميزاً، عند قسم من الروايات الحساسية الجديدة؛ وهي تفرض بروتوكولات محددة في عملية القراءة من قبل المتلقي على أساس شفرة العنوان هي: “العنوان الرئيس؛ اسم المؤلف، العلامة الأجناسية”، تمنح أي خطاب هويته؛ إذ بهذه المكونات أو المقومات التسمائية شرع الخطاب يحتاز هويته، وبها يتمايز ويسجل اختلافه.(6)
ولا يستطيع (القارئ- الناقد) بدون هذا الولوج داخل النص من استنطاق النص وتأويله؛ لأنه ليس مجرد كلمات تدل على عمل أدبي بل هو إلهام تخيلي للوصل إلى هذا الاستنطاق والتعبير عن مكونات المتن الحكائي.(7)
إذ يشكل العنوان عنصراً أساسياً في النص الأدبي ومحوراً دلالياً رئيساً في النصوص الأدبية، فهو المفتاح إلى عالم النص وكشف أسراره، إنه مفتاح إجرائي يمكّن المتلقي من الولج إلى عالم النص، وكشف أسراره. وقد عدته المناهج النقدية النصية ما بعد كالبنيوية والسيميائية نصاً صغيراً يؤدي وظائف شكلية ودلالية وجمالية تنبثق عنه دلالات تمتد إلى مفاصل النص.(8)
و”قد يقوم عنوان الرواية بالإعلان المسبق عن أحداث الرواية، وذلك عندما يخبرنا بما ستكون عليه النتيجة النهائية للرواية”.(9)
العنوان في رواية يوم من أيام عفدالي زينكي للكاتب محمد أوزون، عنوان ينطوي على حركية السرد، وهو توضيح فصيح يلفت انتباه القارئ لما في داخل النص الروائي من رسائل إنسانية؛ يود الكاتب إيصالها للمجتمع بأسلوب فني، وهذا واضح للعيان من خلال ورود اسم الشخصية الغنائية المعروفة في العنوان؛ فـ عفدال كان مغنيا ذائع الصيت، وليس من مغن غير قادر على التعبير بأعذب المفردات المنتقاة، ليدوم أثر ذلك الصوت – الصوت الذي ينشد الحضور في التاريخ – وتلك الكلمات الفصيحة والأقوال والحكم طويلا.
تحمل تلك الرسائل في جعبتها وظائف عديدة؛ منها تعليم وظيفة كيف تكون التضحية، كما يشير إلى الموروث الشعبي في المجتمع الكردي، فاختيار العنوان كان ذا دلالة بليغة فقد بقي الروائي مؤمنا بأن الصوت العذب له مقدرة كبيرة على الإبحار في رحلة المآسي التي تعانيها، وتشكوها البشرية، والطرق والبحث عن أبواب الخلاص، لما يتمتع به من قوة الرمز المعبّر عن الأحداث، ومواجع حياة الحيف والقهر، ودعا لإحياء الشخصية الغنائية، والإشادة بمكانة الفن؛ لما له من دور فعّال في الحفاظ على هوية الثقافية للشعوب، فهو الذاكرة التي تعيد الحياة للأشياء الماضية، كما أنه يعمل على نشر المحبة والتسامح بين مختلف شرائح المجتمع، والأقوام المتجاورة.
ورمزية اسم عفدال باللغة الكردية في العنوان، والذي ليس إلا تحويرا لاسم عبد الله، إشارة لتحول الذاكرة إلى التاريخ، وأعني هنا سرد أحداث من تاريخه الكردي، وما يتخلل واقعه القائم، والذي شكّل العتبة الكبرى التي تستشرف الرواية.
وتتجلى إشارة عنوان (مجموعة دفاتر التدوين) للكاتب جمال الغيطاني، الصادرة عن دار الشروق، عام 2005، حينما يطالع المتلقي هذه المجموعة في أن الغيطاني يجمع بين دفتيه أشياء ثمينة تقتضي مطالعتها؛ ليجد فيها التوظيف الدقيق للكلمة، فالدفتر هو مشروع كبير عمد إليه الغيطاني لينفتح على الآخرين من خلال تدوين سيرته الذاتية، والتي لا يعلمها الكثير من الناس؛ فهي تعتبر أيامه وحكاياته، للدفتر علامة، وهو في الوقت نفسة مركز انطلاق الغيطاني مع انطلاقة ذلك المشروع، والمتمثل في التبادل الثقافي، والأخذ والعطاء من الحضارات، فكل حضارة تسلم إلى الأخرى ما أنتجته عقول الحضارة التي سبقتها، فالحضارة الفارسية قد استفادت من الحضارة اليونانية، وأفادت الحضارة الإسلامية.
وهنا لا بدّ وأن نشير إلى إمكانية إدراج فكرة التدوين؛ باعتبارها مقابل لفكرة الشفاء، وهو أمر يحتاج إلى مزيد من الإضاءة؛ لذلك فإن السيميولوجيا، والتي تبحث في حياة العلامات تقتضي من المطلع الدقة في معرفة اللفظة نفسها، ذلك أن العنوان الرئيسي للدفاتر معه عنوان رئيسي آخر، أقل منه شأنا، فالمشروع الكبير هو دفاتر التدوين، ثم يبدأ بالدفتر الأول، والذي عنوان بخلسات الكرى، ثم تلا ذلك بالدفاتر الأخرى. (10)
والعنوان في الرواية يمكن الروائي من شدّ الانتباه إلى القضايا التي تعانيها الإنسانية، عبر ما يترجمه، ويعلن به مسبقا؛ فتأتي معالجة تلك القضايا عنده بطابع تراجيدي ومأساويّ تعكسه أحداث الرواية، لتشير إلى العالم، والأحداث التي تدور فيه بسبب العلاقات الاجتماعية، والتي تجعله يئن تحت ضربات القهر والعذاب، لتترك في النفس آثارا عميقة لن تندمل، طالما أن تلك الضغوطات الاجتماعية لا تزال قائمة، ولا تتعب يوما من القيام بدورها المفجوع والموجع.
وعتبة العنوان في الرواية تقوم على أحداث متنوعة، ومتغيرة، منها الفكر المتحرر من القيود، والذي تمثلها الشخصية، والسعي نحو النهوض، والتحرر من الفكر المتشدد، مما يجعل القارئ يستمر في انتباهه للشخصيات كونها تمثل رمزا للانفتاح والتحرر من الفكر المتشدد، وهذا يظهر جليا من الكلمات التي تشكل العنوان.
ويومئ العنوان (واحة الغروب) للكاتب بهاء طاهر، الصادرة عن دار الهلال، عام 2006، إلى العديد من الإشارات النفسية التي يختلف في تأويلها حسب الحالة النفسية للمتلقي، فالغروب انتظار عهد جديد، وهو أيضا نهاية مرحلة، قد تكون مفعمة بالعمل والكفاح، وما يتخلل ذلك من سعادة وانتصار؛ ذلك أن الواحة مكان للراحة، وملجأ وأمان في بعض الأحيان، أو تكون على النقيض من ذلك، نهاية لرحلة من العذاب والشقاء وهروب وإحباط، فالحالة النفسية تنعكس بالسلب أو الإيجاب على فهم العنوان. (11)
أما تجلي وظائف العنوان في هذه الرواية من ناحية الإعلام لتلك الواحة، والتي لم يكن يعرفها الكثير من الناس، حتى ولو كان هناك من عرفها، فحتما لا يوجد من يعرف ما يدور بداخل الواحة، والقوانين المعمول بها هناك، وبالتالي فقد أعلمنا العنوان ذلك، وجعلنا في اشتياق لقراءة الرواية؛ حيث أنها من صميم وظيفة العنوان، و هو التشويق للقراءة، ومعرفة ما يدور بها، أما الوظيفة الإحالية فهي الحادثة هنا في هذه الرواية؛ حيث أحال العنوان إلى الرواية، كما أن الرواية أحالت إليه، فالكل يفضي إلى الآخر، فالغروب قد خيّم على (كاثرين) زوجة الضابط محمود، الذي جاء إلى الواحة ليكون حاكما عليها، حيث كان زوجته دائما في حالة غروب، كما كان الضابط نفسهن من خلال الحديث مع النفس، والحالة الغريبة التي امتلكت كاترين، منذ أن حلت بهذه الواحة، فالنص يعدّ الثيمة الأساسية التي تتمثل فيها أفكار ثانوية كثيرة، تعمل على توضيحها وتحليلها، ويظهر العنوان في بداية النص، وأعلاه نصا آخر موازيا للعمل، يعرف به، ويحيل إليه، كما يحيل العمل إلى العنوان، إذ إن النص يفسر الدلالة التعبيرية واللغوية التي يتشكل منها العنوان، وهو ما تثيره أحداث الرواية المرتبطة بالعنوان؛ بحكم أن العنوان لا ينطلق من مكان بعيد عن الرواية، فمنها ينطلق وإليها يعود، فأصبحت الرواية مفسرة وموضحة له، من خلال عنصر الإحالة. (12)
وظائف العنوان
ومن الوظائف العامة للعنوان والتي تصلح لكل عمل أدبي وهي:
- العنوان علامة على العمل.
- العنوان يفضي إلى النص كما أن النص يفضي إليه.
- العنوان يهيمن على النص، بكونه كتلة اقتصادية.
- العنوان إفهام للمتلقي.
- العنوان يأتي للتعيين، والتحديد.
- العنوان أيقونة بصرية تأثيرية.(13)
ويؤسس العنوان بوصفه مرسلة تتداول في إطار سوسيو – ثقافي، بنية تواصلية قائمة على المرتكزات أو العوامل الآتية:
الكتاب، القارئ، النص، فضلاً عن العنوان الذي يمثل العامل – البؤرة في هذه البنية التواصلية، وبناء على جملة العلاقات والبروتوكولات المنسوجة بين البؤرة ومرتكزات البنية التواصلية، يمك تقديم جملة العلاقات المتشكلة بفعل التواصل والوظائف النادمة عنها استناداً إلى الترسيمة الآتية: - الوظيفة الانفعالية (البداية المؤلف).
- الوظيفة الأنطولوجية البنائية
(البداية النص). - الوظيفة المرجعية (البداية المرجع).
- الوظيفة الإغرائية (البداية القارئ).
- الوظيفة الشعرية (البداية البداية).(14)
يشير العنوان في ورواية آلموت للكاتب فلاديمير بارتول، إلى تاريخ تلك القلعة التي كانت لها طابع مميز عن غيرها من القلاع، نظرا لنمط الضوابط والقوانين المعمول بها هناك، والذي يشدّ القارئ إلى معرفة ما تحتويه تلك القلعة، واستكشاف جوانبها الخفية، وما تحيط بها من أسرار، وما يجري ويدور بين حصونها، من أحداث ووقائع عبّر عنها العنوان، وكما نعلم التشويق للقراءة هو من صميم وظيفة العنوان.
واستطاع الكاتب من خلال عنوانه دفع القارئ للتفكير ومعرفة الأحداث والأماكن والشخصيات فيها؛ وبذلك يكون العنوان قد أدى إحدى وأهم وظائفه؛ وهي الوظيفة الانفعالية.
ذلك أن الكاتب يحاول أن يكثف معلومات من هنا وهناك عن الأحداث التاريخية على اعتبار أنها امتداد للعنوان، وهي في الوقت ذاته تمثل البناء العام للرواية.
علاقة العنوان بالمقاطع السردية
لا بد من أن ير تبط العنوان بنصه، وذلك لأن العنوان والنص يرتبطان مع بعضهما وفق مواثيق، إن العنوان لكي يكون منتجاً ودالاً وعلى ما في متنه الروائي؛ ينبغي أن يلتزم أحدهما بالآخر، وبناء على ذلك فالعنوان يتجلى في النص، إما بشكله اللفظي أو الترادفي أو الموضوعاتي. وهذا يعني أن النص بوصفه نواة دلالية فيتشكل المتن النصي منه.(15)
و”قد يأتي الاستباق في النص للإعلان المسبق عن بعض أحداث الرواية، إذ يخبر عن سلسلة الأحداث التي سيشهدها السرد في وقت لاحق، ومن هنا فإن الاستباق الإعلاني يمتاز بالإعلان الصريح من قبل السارد عن مآل الأحداث، في حين يقوم الاستباق التمهيدي بالتوطئة والتحضير لسرد الحدث اللاحق وليس الصريح به، ويكون في الغالب ناتجاً عن تنبؤ الشخصيات الروائية”.(16)
وتتوزع المقاطع السردية وتتفرع من خلال المركز وهو منطوق العنوان بما هو دائرة إشارية تحوم في طيات النص الروائي ذاته، وهو ما يحقق الآتي: (إعادة الإنتاج- تأطير ذلك العنوان- امتداد العنوان)(17)
تحمل رواية مزرعة الحيوان للكاتب جورج أوريول، رمزية تظهر نظرة نقدية لنظام سياسي ونفوذه، وهو النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي مثّل أكبر قوة سياسية وعسكرية في العالم، استطاع الروائي نقل وإسقاط الأحداث الواقعية، والصورة النمطية التي يعيشها البشر، والتي جاءت على لسان مجموعة من الحيوانات داخل إحدى المزارع، فنهض بالقضية والأفكار، وسعى إلى البوح بها عبر العنوان، فأظهرها في الرواية؛ حيث يسرد ظاهرة احتجاج وتمرد الحيوانات من أجل المساواة، والتي انتهت تجربتها بالفشل نتيجة سيطرة حب الذات والسطلة على الحيوانات التي جاءت أنماط عيشها متماهية مع أنماط معيشة البشر تماما، من حيث التفرّد بالسلطة، والاستقواء على الآخرين، واتباع أسلوب القهر والإذلال لعامة الشعب والذي عبر عنهم الكاتب بطريقة تحاكي الواقع الإنساني تماما.
المقاطع السردية بما يدور فيها من أحداث ووقائع في هذا العمل الروائي كانت على علاقة وطيدة مع العنوان، فقد عرى الكاتب حقيقة الزمن المأساوي الذي عايشه الشعب تحت اسم نظام ديمقراطي، كما يعرض الكاتب تدهور الوضع السياسي، ويرمز إلى التمرد الذي يهدف إلى العيش بحرية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، إلا أن ذلك التمرد أوصل الشعب إلى النقيض، ويلفت إلى أن الدرب إلى التحرير من الاستعمار الداخلي للشعوب درب مليء بالصعاب والعقبات.
والعنوان يحوي وظائف عديدة، يتجلى منها – بداية – الوظيفة التعيينية، فهو تعيين، وتحديد لما جادت بها قريحتها، جاعلة من (قطعة من أوروبا)، للكاتبة رضوى عاشور، الصادرة عن دار الشروق، عام 2003، عنوانا لهذه الرواية، والتي كتبتها مستلهمة التاريخ، ساردة لأحداث جسام مرت بها مصر، بداية من الخديوي إسماعيل، والذي استمد منه عنوان هذه الرواية، لأنه هو من أراد أن تكون مصر قطعة من أوروبا، ومرورا بالعدوان الثلاثي على مصر 1956، وانتهاء بعهد جمال عبد الناصر، لذلك فهي انطلقت من تجاربها السابقة، وهو فعل يقوم به الكاتب، أو السارد، حيث إن القائم بالسرد ينطلق من تجارب سردية، عليه أن يتخذ منها موقفا، إما بالإذعان لها، أو التمرد عليها، مع العلم بأنك لن تجد أبدا إذعانا صرفا، أو تمردا جذريا، والمتلقي للسرد يقوم بدوره بالعمل نفسه، ولكن بصفة معكوسة، ينطلق من النص السردي، فهي مذعنة تماما إلى هذا التاريخ العظيم، فقامت بسرد هذه الرواية، مستندة إلى الذاكرة التاريخية لمجمل الأحداث.
انسحب هذا العنوان على متن الرواية، في أجزاء منها، ولكنه لم يفِ بكل ما فيها؛ لأن الرواية تتناول أحداثا مرت بها مصر، وعاشتها الكاتبة، فكانت شاهدة عليها، نحو حريق القاهرة، مذبحة الإسماعيلية، وأحداث اليهود في مصر، و لو أنها جعلت العنوان (أحداث مصيرية – أو أحداث مصرية)، لكان أفضل من هذا العنوان، ولكنها، وهي الناظر هنا، في هذه الرواية، قد سعت من أجل تبيان أثر هذا الحريق، أو تلك الثورات على ما قام به الخديوي إسماعيل من قبل، فهي تربط الأحداث بالأماكن، والشوارع التي رسمها من قبل الخديوي ومن معاونوه، وهنا، وفي هذه الحالة فقط يشفع لها العنوان في ذلك. (18)
العنوان العلامة اللغوية الأولى
يعد العنوان العلامة اللغوية الأولى التي يتلقاها القارئ قبل أن يشرع في قراءة النص. وإذا عدنا إلى الرواية وجدنا العنوان متجسداً في (فقهاء الظلام)، فالعنوان (فقهاء الظلام) يختزن الدلالات على نحو مكثف، كاشفاً للقارئ أن النص مشروع القراءة يتمحور حول الكلام عن (فقهاء الظلام).(19)
وما دام العنوان يتمثل في حالة الضياع المتمثلة في الحديث عن مجموعة من الناس يحيط بهم الاغتراب الروحي والمكاني فإن علاقة العنوان بالمقاطع السردية تترابط وفق المخطط التالي:
العتبات النصية
البداية الضياع النص
الخاتمة (20)
ويمارس العنوان الوظيفة الاجتماعية، ذلك أن رواية (صمت الفراشات) للكاتبة (ليلى العثمان)، الصادرة عن دار الآداب، عام 2008، هي جرأة أدبية وتاريخية، وظاهرة جسورة، تجلت في هذه الرواية، حيث رسمت صورة لتعرية العجز العربي، بطريقة فنية رائقة، من خلال الصمت الذي اصبح، ومن خلال هذه الرواية، أبلغ من الكلام، الصمت الذي يلف الأجواء العربية بالحزن، والألم، لما وصل إليه الحال من تردّ، فالرغبة الحثيثة لنيل وامتلاك الجسد الأنثوي هي الغاية التي يحبو إليها أولئك الأثرياء، أصحاب القصور، والخدم والعبيد، حيث يجدون المتعة في امتلاك وإذلال الجسد الأنثوي، وإخضاعه لرغباتهم، وشهواتهم.
عنوان صمت الفراشات هي عتبة النقد الاجتماعي المضمر داخل الكاتبة، والذي حمل في طياته وظيفة أخلاقية، تسعى فيها الكاتب إلى بيان الأسباب والملامح والنتائج إلى أولئك الفتيات اللائي يمكن لهن أن يقعن في هذه المتاهة، وذلك أن هذه الظاهرة ليس لها مكان، ولا زمان محددان، فهي توجد حيث يوجد المال، وهو ما نراه في أماكن عديدة، حيث سطوة المال والتلذذ في امتلاك الغير، سواء كان بالرضى، أم بالقسوة، كما هو الحال في هذه الرواية، والتي أشارت فيها الكاتبة إلى محنة أولئك الفتيات اللاتي يجبرن على ذلك، وقد عبرت الكاتب عن ذلك حين أمرها والدها في هذا المقطع: “أطبق بإصبعيه على شفتي، فركهما فركا وصل أعصاب روحي، ونفث تهديده، سأقطعهما إن لم تصمتي من الآن حتى يوم عرسك”. وبالتالي فإن المرأة ينظر إليها بما هي موضوع، وليس بما هي إنسان، أو (ذات)، موضوع يمكن استبعاده من المسرح السياسي والاجتماعي بإرادة من يمتلك السلطة في المجتمع، هذه الرواية هو تحذير للأخريات ألا ينساقن وراء تلك الإجراءات، والدليل ما وصل إليه حال تلك الفتاة من انهيار، وهو ما كان نتيجة طبيعية لإرغامها على الزواج من رجل فوق الستين، في الوقت الذي لم تتعد فيه سن العشرين، مع التزامها الصمت القاتل، تقول الكاتبة: “لكن حنجرتي لم تسعفني، وتاه لساني، حتى حسبت أنه قطع، قبل أن يغادر الغرفة، ظلت كلماته تطن في أذني، عليك أن تعتادي الصمت”. (21)